"رحلة الشتاء - صالح" لمحمد سعيد ناود أول رواية كتبت بلغة الضاد وصدرت عام 1978
محمود أبو بكر صحافي مختص في شؤون القرن الافريقي " من ارشيف " ظل الأدب الإريتري المكتوب باللغة العربية يعاني العزلة في محيطه العربي وعلى امتداد قراء لغة الضاد، على رغم أن "العربية " ظلت إحدى المكونات الأساس للثقافة الإريترية المتعددة والمتنوعة في تكويناتها اللسانية والإثنية والحضارية.
مكتبة تضم مجموعة من الروايات الاريترية (مواقع التواصل)
إريتريا التي تقع شرق القارة الأفريقية وتحدها دولتان عربيتان هما السودان وجيبوتي، وتمتد شواطئها على طول 1100 كيلومتر عبر البحر الأحمر بمحاذاة كل من اليمن والسعودية مداً وجزراً، ليست غريبة على هذا الامتداد الثقافي العربي.
وتشير الدراسات التاريخية إلى أن انهيار سد مأرب في اليمن دفع أفواجاً من البشر إلى النزوح نحو المناطق التي تشكل دولة إريتريا الحالية، حاملين معهم ثقافتهم وفنونهم بكل ما تشكله من مضامين ثقافية وأنماط حياتية لم تكن معهودة في "الوطن الجديد"، من أساليب الزراعة على المدرجات الجبلية إلى غيرها من الوسائل المعبرة عن ثقافة مختلفة، لتصب في الوعاء الثقافي للواقع الجديد وتشكل رافداً حضارياً جديداً، في تزاوج وامتزاج ثقافي نادر الحدوث في ذلك الوقت الباكر من التاريخ.
وتأتي "الهجرة الأولى" لصحابة الرسول في العام الخامس للبعثة المحمدية نحو المرافئ الإريترية حيث بني أول مسجد للإسلام في منطقة "رأس مدر" بمدينة مصوع الحالية، وتلك الحفاوة التي استقبل بها الدين الجديد وانتشاره بشكل تلقائي يتصف بالسماحة والقناعة العقدية في الضفة الغربية للبحر الأحمر، كل ذلك أسهم في هذه التعددية الثقافية وامتداداتها الراسخة لغة وثقافة إنسانية وقيمية.
العزلة وبالتالي فإن النتاج الثقافي والأدبي الإريتري وخاصة المكتوب منه باللغة العربية يعد مولوداً طبيعياً لهذا الواقع، إلا أنه ولأسباب كثيرة لم يفلت هذا النتاج من واقع العزلة المضروبة على هذا الوطن لأسباب يصعب حصرها، لكن بعضها يمكن تفهمه في إطار السياق السياسي المتعلق برزوح البلاد لعدد من القوى الاستعمارية التي عملت على عزلها من محيطها مع فرض أنماط لغوية وثقافية تخدم مصالح المستعمر، وكما أن الحروب المتلاحقة ونمط النظام السياسي الذي ساد عقب الاستقلال أسهما في تعميق هذه "القطيعة" أكثر. معادلة الهامش والمركز وبعيداً من العوامل السياسية والتاريخية التي أسهمت في عزلة الأدب الإريتري عامة والمكتوب منه باللغة العربية بخاصة، فإن السؤال المركزي الذي ينبغي طرحه يتعلق بماهية الخصوصية التي يمكن أن تمثلها النصوص الأدبية الإريترية في المشهد العربي، في ظل سيطرة المركز على الهوامش في الثقافة العربية المعاصرة، إن صح التوصيف، وفق الرؤية التي يطرحها الباحث المهتم بالحضور العربي والإسلامي في شرق ووسط أفريقيا الدكتور كزافيا لوفان، وتحديداً على الصعيد اللغوي، إذ يعد أحد أهم مترجمي الأدب العربي للغات الأجنبية وبخاصة الأدب السوداني. ويرى أن "في هامش الثقافة العربية أدب وكتاب جيدون يكتبون باللغة العربية، ويتجلي ذلك في الصومال وإريتريا مثالاً"، وإذا ما سلمنا بصحة نظرية "المركز والهامش" بكل ما تحمله من تجليات عملية، فإن الأمر برمته لا يعدو كونه سطوة "بروز وانتشار" في مقابل واقع "العزلة" المفترضة التي يمكن تجاوزها باتباع وسائل نشر وترويج ناجعة لا سيما في ظل "الثورة المعلوماتية" الهائلة التي يعيشها عالمنا المعاصر. وشهدت السنوات الأخيرة طفرة كمية ونوعية في الإنتاج السردي الإريتري مع بروز أسماء جديدة لمعت في المشهد الروائي العربي، لا سيما بعد الاهتمام الذي وجدته رواية "تايتنكات أفريقية" لأبوبكر كهال من أدوار نشر أوروبية، إذ ترجمت إلى لغات عدة، فضلاً عن برمجتها في مناهج عدد من الجامعات الأميركية والأوروبية، وتتويج الروائي الإريتري حجي جابر بجائزة كتارا للرواية العربية في دورتها الخامسة عام 2019 عن روايته "رغوة سوداء".
ناود أول سارد باللغة العربية
يعد محمد سعيد ناود (1926 - 2010) أول من كتب الرواية باللغة العربية في إريتريا وهي رواية "رحلة الشتاء - صالح" التي صدرت عام 1978 عن دار "الكاتب العربي" في بيروت. ويرى الناقد والروائي محمد جميل في حديث إلى "اندبندنت عربية" أن "رحلة الشتاء تعد علامة فارقة لجهة صدورها كتجربة أولى وبمستوى فني مميز". ويقول "بطبيعة الحال ثمة أثر واضح في الرواية بتأثرها بمناخ كتابي سوداني، إذ أن محمد سعيد ناود الذي عاش فترة من طفولته في السودان حتى شبابه وتلقى تعليمه هناك وانخرط في تجارب سياسية وحزبية سودانية، هو في الوقت ذاته من إثنية يتقاطع وجودها الحدودي بين السودان وإرتريا".
من أعمال محمود شامي (مواقع التواصل) وفي قراءته لخصوصية هذه الرواية يوضح أن "ثيمة الثورة تبدو هي الغالبة على محتوى الرواية على رغم أن أدبيات الثورة أدبيات سياسية بامتياز إلا أن ناود في ’رحلة الشتاء‘ أمسك جيداً بخيوط لعبته السردية، لكن ناود الذي لا يمكن القول إنه كان متفرغاً للكتابة الأدبية، كونه قائد لحركة تحرر وطني ’حركة تحرير إريتريا‘ بفقدانه لمسودة روايته الثانية ’المغترب‘ كان استأنف اهتمامات العمل الثوري وضغوطه وتناقضاته التي شغلته كثيراً عن كتابة الرواية".
تجارب أدبية إريترية
وإلى جانب ناود برزت تجارب أدبية إريترية عدة بخاصة في مجالي الشعر والقصة القصيرة، ولعل أبرز تلك الأسماء الشاعر محمد عثمان كجراي والشاعر عبدالرحمن سكاب والشاعر أحمد سعد والشاعر محمد محمود الشيخ، وأجيال جديدة أخرى كتبت باللغة العربية شعراً وقصة قصيرة، إلا أن ميلاد أجيال جديدة من الروائيين تأخر حتى بداية التسعينيات من القرن الماضي.
ثيمات الثورة وأحلام الوطن المأمول
ومع تحقيق حلم الاستقلال مطلع التسعينيات عاد عدد من الكتاب والأدباء الإريتريون لأرض الوطن محملين بهواجس الكتابة لوطن يشبه أحلامهم، وبدأت الكتابات الأدبية تعرف طريقها للصحف والمجلات المحلية والعربية وبخاصة في مجال القصة القصيرة التي شهدت طفرة كمية ونوعية، لعل أهمها تجارب عبدالرحيم شنقب وعبدالقادر حكيم وعبدالجليل سليمان وحامد ضرار وخالد محمد طه وجمال همد والغالي صالح ومصطفى محمد محمود وآخرون. وكانت ثاني تجربة روائية إريترية لأحمد عمر شيخ في نوراي التي أثار صدورها كثيراً من الجدل النقدي في صحف عربية ومحلية عدة، لتتواصل تجاربه عبر أربع روايات لاحقة "الأشرعة" و "أحزان المطر" و"ريح حمراء" و"الهش"، وباستثناء الرواية الثالثة فإن جميع تلك الأعمال صدرت داخل البلاد. وخلال مرحلة لاحقة ومع بداية الألفية الجديدة برزت أسماء روائية إريترية في المحيط العربي، لعل أهمها كما يذكر محمد جميل أحمد، اسمين بارزين هما أبوبكر كهال الذي جرب في روايته "رائحة السلاح" ثيمة الثورة، وإن قارب اهتمامات وعناوين أخرى من واقع تطورات حياة متنقلة في منفى غير مستقر كثيمة "الهجرة" التي كانت موضوعاً لروايته ذائعة الصيت "تايتانيكات أفريقية" التي ترجمت للإنجليزية والألمانية والتركية، وأخيراً أصدر روايته الجديدة "بلاد البونت". ويضيف جميل أن الصوت الثاني هو حجي جابر الذي يعد روائياً بارزاً من خلال ما حققته رواياته من نجاح، وهي روايات ظل يصدرها بانتظام خلال السنوات الـ 10 الأخيرة حتى بلغت اليوم خمس روايات هي "سمراويت" و"مرسى فاطمة" و"لعبة المغزل" و"رغوة سوداء" و "رامبو الحبشي"، وكانت "سمراويت" اتخذت من موضوع "الثورة الإريترية" إحدى ثيماتها الأساس.
ويلاحظ جميل "أن التجارب الكتابية الثلاث لكل من ناود وكهال وجابر من حيث كونها أدباً إريترياً مكتوباً بالعربية، روايات كتبت في مناف عربية، فناود في السودان وكهال في ليبيا وجابر في السعودية، وبطبيعة الحال ثمة تأثير للمكان في إنتاج روائي كهذا".
سؤال الكم والنوع
أي كان نوع الكتابة وموضوعها فإن الأدب الإريتري شهد طفرة في الكم والنوع خلال العقد الماضي، إذ أضحت دور النشر العربية تستقبل روايات ودواوين شعر لعدد من المبدعين الإريتريين، كما حققت الإصدارات الإريترية إقبالاً واسعاً في معارض الكتب العربية. ومن الأجيال الجديدة التي ولجت ساحة الكتابة والنشر الروائي هاشم محمود الذي أصدر سبع روايات في فترة وجيزة، وهي "الطريق إلى أدال" و"تقوربا" و"شتاء أسمرا" و"عطر البارود" التي ترجمت إلى الإنجليزية والفارسية والإسبانية، "كولونيا الجديدة" و"الكتيبة 17".
فيما صدر لمحمود الشامي ثلاثة أعمال روائية، هي "9 مارس" و"وثالثهما الفنجان" و"روزلين يقظة الحلم"، وأصدر مصطفى محمد محمود رواية "الكولونيالي" ومجموعة قصصية "هناك الأشياء تبقى كما هي". وصدر لعبدالقادر مسلم رواية "أزمارينو" و"جرح الذاكرة" لعبدالوهاب حامد و"حوارية الزمن الردئ" لمحمد إسماعيل هنقلا، كما صدر لمنصور سعيد روايتي "سلالة البؤساء" و"لعنة وشم". وأمام هذا التنامي الكمي الكبير يبقى سؤال النوع مطروحاً مما يتطلب اهتماماً نقدياً مواكباً لهذه الحال الأدبية التي لم تفلت بعد من واقع العزلة إلا فيما ندر من الإصدارات. المصدر >>>>
Comments