top of page
  • tvawna1

يتيم بسكديرا


بقلم الاستاذ / عبدالجليل الشيخ

13/07/2023

كانت تتابع أحداث السودان في القنوات الإخبارية ، و ترفع يديها:" اللهم نجيهم كما نجيت يتيم بسكديرا ".

فقلت لها:" يا جدّتي ما حكايتك مع بسكديرا حتى أصبح ضمن الدعاء ؟..).


رمقتني بنظرة حانية، و أعتدلت في جلستها ، و قالت:" هذه حكاية أذكرها جيداً منذ لفحتني رائحة الزيتون مع فتح باب بيتنا ، حيث يفترش أهل الريف الرصيف المقابل بالخضار و الفاكهة. الذين يأتون الى البلدة التي يعلو فيها نداء الماذن فتنطلق الحياة الى معاشها مع سيمفونية الباعة و نغمات طواحين الذرة، و الضرب على الحديد. و تنطلق سيارات الأجرة لنقل المعلمين و الإداريين من البلدة الى ضواحيها. هذه البلدة تضـبط عقـارب السـاعـة على السـابعة وخمسـة وعشـرين دقيـقة يوميا مع نداء الشـيـخ "بخيتــاي" و أخبار الأفراح و الأتراح حتى ساعة السحور في رمضان تضبط على صوته. هكذا ترتبط حركة البلدة بدقة متناهية على الصوت لأن الخفوت معناه الهمس و الهدوء الذي يسبق العاصفة.

أعتاد ابني مع فتح الباب ، الذهاب الى " عرّيت " التي تكافح لإعالة بناتها الخمسة بعد وفاة زوجها. حيث تأتي كل يوم من مقارح حاملة أطايب الفاكهة، و هي تناجي ربها أن يمضي يومها بسلام حتى تعود الى دارها بامان ، خصوصاً بعد الأحداث الأخيرة في ضواحي البلدة.

أغلقت الباب جيداً. و القيت التحية على عرّيت التي أحتضنت ابني، و ناولته قطعة زيتون (جوافة). حاولت إعطائها قيمة الزيتون لكنها رفضت قائلة:"هذا خيركم و خير أبوه ". فأبتسمت لها مع التعبير عن شكري .

أمسكت بيد عبدالرحيم أصغر أبنائي، شبيه والده الذي رحل من دنيانا قبل ميلاده بشهرين. و ما أن تحركنا حتى شعرت بيد على كتفي:"السلام عليكم"ـ كانت حجية سلام التي مدّت يدها بالسلام الى " عرّيت " ثم تبادلنا التحايا و السؤال حتى قالت:

- أراك أغلقت الباب ، كيف نعمل اذا احتجنا الى الماء ( قالتها ضاحكة).

- الباب مفتوح في الجهة الجنوبية ناحية شجرة العنب .

- اشتقت لمرق الدبة (اليقطين).

- من أجل العين تكرم مدينة. غداً بإذن الله .. لعيونك نذبح دبيلة (تيس)، و نطبخ لكِ الدبّة.

- ينت أصول الذبيحة عليكم ، و الجلد لجاركم غرامه .

- غرامه جارنا و النبي أوصى بسابع جار .

- صحيح ، لكن الجلد أغلى من قيمة البهيمة ثلاث أضعاف.

- نحن لا نبيع الجلد ، نقوم بالتنظيف و التجفيف و التمليح و استخدامه في حاجات البيت .

- أكيد .. اكيد ، أنا حبيت ممازحتك .

...( باغتتنا عرّيت ، التي نسيناها في خضم الحديث ):- " أنتم فاضيين ما عندكم شغل، و أنت يا حجية شكلك عروس اليوم، أكيد عندك إجازة ، رائحة عطرة و حناء يستر الشيب.

أصلحت حجية غطاء الرأس حتى أخفت الظفيرة، و نظرت الى عرّيت:- أنت عارفه الاجازة لأهل الرفاهية أما الكادحين أمثالنا اجازتهم في فرحة الأبناء حين نعود اليهم بقوت يومهم. ما رايكم في شغل بنت اختي "سنايت"

شغلها نظيف ، تضفير ، و حناء قمر بنت أربعة عشر .

كانت فرصة للتخلص من حجية، فأعتذرت لهما حتى أمضي في مشوري. لكن حجية أصرت على مرافقتي حتى الشارع العام .

- طيب وين رايحين ؟ و هي تمسح على شعر ابني .

- أزور أهلي .

- ياه .. زمان ما زرت حلّت هيكسون (ضحكة)، انا اسميها على الاسم الإنجليزي . سبحان الله مغير الأحوال الذي لا يتغير ، تحول االمبنى من مدرسة لتعليم اللغة الانجليزية الى بقالة. حاجة غريبة فعلاً ، الأسماء عندنا قابلة للتغيير الا سمات المكان لا تتغير . شارع " قنافو " كان اسمه شارع قناة السويس . كل شيء قابل للتغيير الا اللغة العربية في حياة المجتمع و العلاقات خارج البيت مع ان الرطانة في بيوتهم لغات و لغات ، كأنها هوية

و انتماء للمكان الكبير. بل هوية وطنية قاومت الإيطالية و الإنجليزية. كانت تتكلم و تتكلم عن ذكرياتها في البلدة حتى عرجنا ناحية الشارع القديم المؤدي الى مقبرة الطليان توقفت قائلة:شايفة الشارع العتيق و الطراز العثماني لبعض مبانيه ، كان مركزاً تجارياً و فيه مبنى بنك البلدة القديم، الذي أصبح مكاناً لحركة سيارات الأجرة المتجهة الى ضواحي البلدة. الله يرحم الطيبين ، شايفه الرخامة مكسورة، سقط الاسم الأول، و طُمس الاسم الثالث، الأوسط اسم محمد الموجود على الرخامة. هذه الرخامة شاهدة على اسم جدّك، و الدار الكبيرة التي أصبحت عشرة مربعات الباقي لكم من جدّك . الله يطرح عليكم البركة.

- الله يبارك لك في عمرك ، و ايامك الجميلة. ما شاء الله ، أنت فاكرة كل شيء ، كم عمرك ؟..

- عمري .. عمري .. أنا أصغر من أمك - الله يحفظها - بخمسة سنوات ( قالتها ضاحكه ).

- أمي مولودة أيام الطليان .

- لا .. لا .. أنا مولودة أيام الانجليز .. كـده أكون من عمر خالتك الصغيرة . الشئ الأهم العافية ، سامحيني .. أنا مضطرة أتركك حتى الحق احجز المكان قبل باعة عربيات المقلاة (الصاجه). أشوفك على خير و السلام على الأهل أمانة بالذات الجدّة . و مضت حجية سلام التي تسعى وراء قوت يومها من بيع التسالي و الفول السوداني على رصيف قصر الخواجة ريبا أمام من ميدان الزهور.

كانت الشمس دافئة في شارع يفوح برائحة الليمون و النيم ، و يعج بالحركة على أنغام مطحنة أبو ريكو ، و انا أشد على ثوبي الساتر (بلّاي) بيدي اليسرى، و ممسكة ابني عبدالرحيم بيدي اليمنى. نختصر المسافة تلو الأخرى حتى توقفنا عند جورجيو للساعات. و أستلمت ساعة الجيب التي سبق أن أحضرتها لإصلاحها من عطل في احدى العقارب. حينها قال جورجيو:" هذه ساعة جيب من باتيك فيليب مكانها في القلعة مع وثائق المحكمة ". و حين ابديت له دهشتي ، أستدرك قائلاً :" الساعة أثرية من أيام " أومبيرتو " ملك إيطاليا .

الساعة من الذكريات الحميمة لجدّتي التي تقطن في دار أخي عبدالنور أصغر إخواني، الذي تكفل برعايتها مع الوالدة بعد وفاة أخي عبدالكريم .

شعرت بيد عبدالرحيم تنسحب من يدّي، فنظرت اليه:

- أماه. . .

- ما بك يا حبيبي ؟

أشار الى بائعة الليمون ، فذهبنا اليها ، و أشتريت له عصيراً مع التنبيه أن يشربه في البيت. وافق بهزة من راسه. و مشينا قليلاً حتى تقدم منا، بخطوات مرتجفة، وأقدام هزيلة، صبي ، مد يده المرتعشة، يسألنا الحسنة، يتكلم بعينيه، لا بلسانه . كنت حينها أمسك يد ابني بيسراي، وأحمل حقيبتي بيميني، و لم أكلف نفسي لأضع في يده شيئاً من المال . حيث تابعت مسيري و طفلي يطيل النظر إليه.

وما كدنا نخطو عدة خطوات حتى انقطع عبدالرحيم عن الكلام، وكف عن مداعباته لي .. مع احساسي بالرغبة في الصمت.

أخرجني من صمّتي صوت الدرويشة فاطمة جنقرين في وجه أطفال بلاحقونها بالقرب من محل الدراجات الهوائية "البسكيلته"، قبل أن يردعهم أحد المارة. حينها أنتبهت لحركة الشارع ، و اتجهت الى الجهة المقابلة حيث محلات الاليكترونيات فيليبس. تجاوزتها حتى ولجت محلات سالم القثمي للأقمشة.

أشتريت قطعتين من القماش لجدّتي و الوالدة و غطاء للرأس لزوجة أخي. ثم ذهبت الى بقالة شمروخ لشراء بعض المقاضي، كان الصبي سعيد موجوداً، فطلبت منه مساعدتي لايصالها الى بيت أخي الكائن في الزقاق الخلفي بجوار ورشة النجارة .

خرجت من البقالة الى صيدلية برونو في الزاوية الأخرى لشراء دواء الروماتيزم. هذا الدواء الذي يساعد جدّتي على الحركة مما يبعث فيها الأمل في الحياة بدل التحسر على ماضيها الجميل. و نظرت الى عبدالرحيم:

- -ستفرح جدّتك بمجيئك اليها .. كنت أعتقد بانه سيفرح، لكن حركته أصبحت ثقيلة مع محاولاته سحب يدّه . فقلت له ما بك ..؟ فباغتني بالسؤال : لماذا لم تساعدي الطفل ؟ .. كانت نظرات عينيه براقة و فيها الكثير من التساؤلات. حاولت أن أشغله باعطائه قطع من حلاوة توفل لكن رفضها بصمت و لم ينبس بكلمة واحدة .

أنتبهت الى نفسي، كنت أعتقد بأنه متضايق بسبب عدم توقفي عند محل الدراجات الهوائية. لقد أختار السكون و الصمت لأنه مشغول البال منذ أن وقعت عيناه على وجه ذلك الصبي المسكين !..

شعرت في أعماق نفسي بشعور من الضيق، و أحسست بإنني قد أسأت إلى ذلك الطفل إذ لم أمنحه شيئاً. ألقيت نظرة على ساعتي، فوجدت أن هناك متسعاً من الوقت لكي نعود إلى الصبي المسكين، و نساعده بما تيسر.

ثم نذهب الى جدّتي . عدّنا أدراجنا، و أنا خائفة أن لا نجده في مكانه. وصلنا المكان الذي أبصرناه فيه فلم نجده، فسألت بائعة الليمون، التي أشارت الى الناصية المقابلة. كان جالساً تحت شجرة النبق (السدر) المجاورة لمحل بيع الفاكهة. فأخرجت من حقيبتي ما تيسر من المال ، و ناولت عبدالرحيم. الذي أنطلق اليه بفرحة غامرة .

أقتربت من الطفل ، الذي تسبق نظراته كلامه ، و سألته ما أسمك : - لا أعرف . - أين أهلك ؟ - لا أعرف .

كانت حركة عينيه لا تتوقف، و هو ينظر لحركة المارة في الشارع . ثم مضى الجهة المقابلة مع توقف ناقلة جند أمريكية الصنع بالقرب من محل الفاكهة. نزل منها جندياً و عاد اليها محملاً بالبرتقال و الليمون. حينها أمسكت بيد ابني، و مضيت عائدة من حيث أتيت مع احساسي بالغبطة لأن عبئاً ثقيلاً قد أزيح عن كاهلي، لكن حيرتي ظلت فيمن يكون ؟ حتى سمعت عبدالرحيم قائلاً : - متى سنراه مرة أخرى ؟..

– من ؟.. يتيم بسكديرا . - من ..؟ صديقي الذي أعطيته المال. - كيف عرفت انه يتيم ؟ - هو اخبرني حين قلت له: أنا عبدالرحيم ، ما أسمك ..؟ - قال: يتيم . - أين بيتكم ؟.. - بسكديرا . أمي ، هل بيتهم قريب من بيتنا ؟

كان عبدالرحيم فرحاً و مسروراً ، مما أسعدني الأمر . لكن في داخلي ذكريات مؤلمة منذ أحترقت الأرض في قرى و ضواحي البلدة . مات أهلها في مذابح جماعية. "آه يا بسكديرا ، آه على الأهالي الذين تم جمعهم داخل المسجد، و أغلق الباب عليهم حتى أحرقوهم بلا رحمة ".

بقدر ما شعرت بالحزن مع ذاكرة أعادتني الى أيام موجعة لا تنسى بقدر فرحتي لفرحة عبدالرحيم سروراً بالحياة، وغبطة بالدنيا مع الأمل أن يكون مستقبل الأجيال المقبلة أفضل مما نعيش فيه حالياً .

من الفرحة طوينا المسافة حتى وصلنا صيدلية برونو، كانت سيارة فولفو تقف أمام الصيدلية. و ما أن تجاوزنها الى بقالة شمروخ حتى انطلق صوت انفجار. صرخ عبدالرحيم و تعالى بكاؤه بشهقات حادة . أمسكت به جيداً ، و أسرعت في خطواتي و المحلات تُغلق أبوابها حتى أنعطفت ناحية الزقاق المؤدي لبيت جدّتي.

و منذ ذلك اليوم أتمتم:" الله لطيف بعباده ، اللهم احفظنا و نجينا كما نجيت يتيم بسكديرا ".

54 views0 comments
bottom of page