بقلم الاستاذ / فتحي عثمان
09/08/2024
بالعودة مرة أخرى إلى رموزنا الوطنية نجد أن محمد سعيد ناود يسجل تاريخ أول لقاء له بالشيخ إبراهيم سلطان في العام 1954 وذلك عندما رجع الشيخ سلطان من الحج وأقام في ديم طرودنا في
دار الشيخ آدم شيباي، وذهب ناود مع صديقه ادريس محمد حسن قنشرة لتحيته والسلام عليه. وكان الشيخ إبراهيم سلطان يجلس على سرير عالي والجميع جالسين في الأرض يستمعون إليه. فقام الشاب ناود البالغ من العمر 18 عاماً حينها بسؤال الشيخ إبراهيم سلطان البالغ من العمر 45 عاماً عن إمكانية تحول "الاتحاد الفيدرالي إلى استعمار جديد" فرد الشيخ " أننا تعلمنا فنون القتال، فعندما يقوم أي اثيوبي برمي قنبلة يدوية باتجاه أي منا، كنا نتلقفها ونقذفها في اتجاهه لتنفجر في وجهه" ومن هذا الرد عرف ناود بأن الشيخ لم يفهم مقصده، حيث إنه لم يسأل عن أي قتال كما يقول في روايته.
يمكن النظر إلى "سوء الفهم" الناشب هذا ضمن الهوة الأزلية بين الأجيال؛ فالفارق في العمر بين الرجلين يكاد يصل إلى ثلاثة عقود. وعند الفتي ناود المطلع على هموم حركات التحرر الوطني والمرتبط بعضوية حزب يميز بين حروب الاستغلال الطبقي في الأوطان وعلى مستوى العالم فإن مفهوم "الاستعمار الجديد" ما كان لينفصل عن تصوره لبلاده وللعالم وثوراته في أعقاب الحرب العالمية الثانية وتواري الاستعمار التقليدي لصالح الاستعمار الجديد. أما الشيخ فهو يمثل التجربة السياسية القديمة والمباشرة المتمثلة في تأسيس حزب جماهيري ومقارعة العدو بما هو متاح، وشتان بين الحالتين.
الهوة بين الأجيال يباعد بين ضفتيها اختلاف القيم والمفاهيم والرؤى وهي أكثر تجلياً اليوم من عقد الخمسينات مع ثورة الاتصالات الهائلة. وهذا يقودنا إلى النظر في هذه الهوة ضمن العمل السياسي الارتري اليوم، ومثل المسافة بين الشيخ والشاب في تلك الفترة، تظهر بين "شباب اليوم" وشيوخ العمل السياسي المقاوم هوة كبرى، يزيد من اتساعها أن العمل المقاوم لا يضع أي تصور لتخطيها وذلك بسبب تركيزه على هدف واحد ووحيد وهو اقتلاع الديكتاتور ومن ثم بناء الحكم البديل؟
سمة هذه الهوة هي غياب "المشتركات الجامعة" وحتى لا تبدو الكلمتين كحشو، نقول إن هناك مشتركات غير جامعة. فإذا أخذنا جبهة التحرير والجبهة الشعبية هذان القطبان التاريخيان قد يعرفهما الشباب المولود في المهجر في الثلاث عقود الأخيرة معرفة "مشتركة" ولكن لا يحس بأي "شعور قوي" يجذبه اليهما. فالمعرفة- لو توفرت- لن تكون مربوطة بمشاعر قوية تؤسس للانتماء أو الولاء لهما (رغم محاولة الحكومة اللحاق بما يمكن اللحاق به بمفهوم "وارساي" واحتفالات "شباب الجبهة الشعبية" في المهجر. وتصبح هذه المعرفة الخاوية من المشاعر الرابطة معرفة عامة متاحة كأي معرفة أخرى لا يترتب عليها أي فعل جوهري حقيقي. حتى فكرة الوطن ذاتها لشاب مولود مع أوائل أيام الاستقلال في آخر أصقاع الدنيا لن تكون سوى سحابة غائمة يرعاها تودداُ لأمه وأبيه اللذان ينسجان خيوط الذكريات البالية. في اسمرا وفي عام 2002 سألتني طالبة في المرحلة المتوسطة ببساطة عن الشهيد عثمان صالح سبي، لأنها لم تسمع بالاسم من قبل، فسألتها ما مناسبة السؤال قالت مر عليه اسمه في مادة التاريخ، ولكن لا تعرف من هو. لم استغرب لأن المنهج الذي كانت تدرسه كان يقوم على التغييب المتعمد للرموز الوطنية. اليوم هوة الأجيال تقوم بذلك الدور السلبي بدلا من مناهج التغييب في المهجر. فما الذي يقدمه العمل المقاوم للجيل القادم؟ يبدو في غمرة "الدواس" السياسي الحاصل أنه ليس هناك أي اهتمام بتلك المشكلة التي تتضخم يوماً بعد يوم.
وسيأتي اليوم الذي سيضع فيه- وبقوة عين- الشباب المقاومة والحكم المستبد معاً على الرف: الأولى في رف التجاهل، والثاني في رف التأفف الازدراء.
في ذلك السياق التاريخي لهوة الأجيال كانت إجابة الشيخ إبراهيم سلطان على سؤال الشاب ناود واحدة من بواعث تأسيس حركة تحرير ارتريا.
Comentarios