أحمد عسكر باحث مشارك - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية
جاء توقيع كل من اتفاق بريتوريا لوقف الأعمال العدائية في 2 نوفمبر الجاري (2022) بين الحكومة الفيدرالية الإثيوبية وجبهة تحرير تيجراي، عقب إجراء مفاوضات مكثفة انطلقت في 25 أكتوبر الماضي بدولة جنوب أفريقيا، واتفاق نيروبي الذي أُبرم في 12 نوفمبر بالعاصمة الكينية لتنفيذ بنود الاتفاق الأول؛ ليمثل نقطة تحول مهمة في مسار الحرب الإثيوبية المستمرة منذ نوفمبر 2020، وتطورًا لافتًا في المشهد السياسي الإثيوبي.
ومع اتساع دائرة التفاؤل التي صاحبت توقيع الاتفاقين في الداخل الإثيوبي وخارجه؛ أملًا في التوصل لاتفاق سلام شامل ودائم من شأنه أن ينهي الصراع الإثيوبي المحتدم الذي دام لعامين متتاليين، إلا أن هناك العديد من التحديات التي يمكن أن تشكل عائقًا أمام تنفيذ الاتفاق، وربما تؤدي إلى تحفيز مسببات اندلاع الصراع مجددًا في شمال إثيوبيا، وما يرتبط به من تداعيات سلبية على مستقبل الدولة في إثيوبيا.
ملاحظات مهمة حول اتفاقي بريتوريا ونيروبي
يمكن الإشارة إلى عدد من الملاحظات حول الاتفاقين في ضوء السياق الإثيوبي العام، والتي يمكن أن تشكل بعضها مآخذ تهدد استمرار الاتفاق الأساسي المبرم في بريتوريا، وذلك على النحو التالي:
1- مفاوضات قصيرة زمنيًا: لم تتجاوز المحادثات بين طرفي الصراع 10 أيام منذ انطلاقها في 25 أكتوبر 2022، في الوقت الذي تتعدد فيه الملفات الخلافية بين الجانبين، وهو ما قد يشير إلى احتمال ممارسة بعض القوى الفاعلة لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأفريقي المزيد من الضغوط على أطراف التفاوض من أجل سرعة التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار في شمال إثيوبيا، الأمر الذي قد يترتب عليه خلافات مستقبلية حول تفسير صياغة بعض بنود الاتفاق.
2- اتفاق بريتوريا هو اتفاق مبدئي: أُبرم الاتفاق بالأساس لوقف الأعمال العدائية، وليس اتفاق سلام نهائيًا بين المتحاربين في الداخل الإثيوبي. فهو يمثل خطوة أولية يجب البناء عليها للتوصل لحلول بهدف تسوية أزمات البلاد. كما أنه لم يدخل حيز التنفيذ بعد، فلا تزال المناقشات قائمة بين الموقعين على الاتفاق حول تفاصيل وآليات تنفيذه. ولا يمكن التعويل عليه في حل جميع مشكلات إثيوبيا وإقليم تيجراي في هذه المرحلة على الأقل لحين تنفيذه.
3- التوصل لاتفاق مكتوب: فهي المرة الأولى التي يصل فيها الطرفان إلى اتفاق مكتوب منذ اندلاع الصراع في نوفمبر 2020 -كل من بريتوريا ونيروبي- وذلك على عكس هدنة مارس 2022 التي انهارت في أغسطس 2022، وهو ما يكشف رغبة المجتمع الدولي في إلزام الطرفين ببنود الاتفاق، خاصة في ظل انعدام الثقة بينهما خلال السنوات السابقة. كما أنه يفتح الباب لتوقيع العقوبات الصارمة في حالة عدم التزام أي طرف بهذا الاتفاق خلال الفترة المقبلة.
4- اتفاق غامض نسبيًّا: يظل اتفاق بريتوريا به قدر من السرية، ويفتقد إلى الشمولية، خاصة أنه لم يتم عرضه بشكل كامل. فقد اكتفى المشاركون بإصدار بيان مقتضب مكون من 12 بند على الرأي العام الدولي، وهو ما شكل حالة من التخبط لدى قطاع كبير من الرأي العام الإثيوبي في الداخل والخارج حول البيان خاصة أنه لم يعالج الأسباب الرئيسية لاندلاع الصراع الإثيوبي.
كما أثار هذا الاتفاق العديد من التساؤلات حول تفسير بعض بنوده، مثل الاتفاق على "وجود قوات دفاع وطني واحدة" في إشارة إلى تفكيك قوات دفاع تيجراي وتسريح مقاتليها وإعادة دمجهم في المجتمع. وما إذا كان ذلك مقدمة لخطوة أخرى تتمثل في تفكيك القوات الخاصة للأقاليم الإثيوبية، مما يدفع للتساؤل مجددًا إذا ما كانت الأقاليم الإثيوبية بما فيها تيجراي ستوافق على هذا الأمر أم لا.
فيما عزز الاتفاق بين طرفي الصراع على "استعادة السلطة الاتحادية في تيجراي" التساؤل حول موقف الحكومة الفيدرالية من حكومة تيجراي خلال الفترة المقبلة، وما إذا كانت ستخرج من السلطة أم ستستمر. وإن كانت حكومة تيجراي قد أصدرت بيانًا عقب توقيع اتفاق بريتوريا تؤكد فيه أنها باقية على رأس السلطة في الإقليم، وأن شعب تيجراي هو الوحيد المنوط به إجراء التغيير عبر الانتخابات، وهو ما قد يمثل خلافًا محتملًا بين حكومة أديس أبابا والجبهة خلال الفترة المقبلة.
كما لم يُشِرْ الاتفاق إلى مسألة إعادة الإعمار في مناطق الصراع بعد وقف الحرب، لا سيما أن وزير المالية الإثيوبية قد صرح بأن هناك حاجة إلى 20 مليار دولار لإعادة بناء وإعمار المناطق المتضررة من الحرب الإثيوبية في تيجراي وعفر وأمهرة.
5- تغييب أطراف أصيلة في الصراع: شهدت المفاوضات التي جرت في جنوب أفريقيا غياب بعض الأطراف الرئيسية في الحرب الإثيوبية لا سيما قومية أمهرة، والنظام الإريتري الحاكم، وهما حليفان رئيسيان للنظام الإثيوبي في الصراع. ولم يُذكر اسم إريتريا في اتفاقي بريتوريا ونيروبي، وإن كان اتفاق نيروبي قد أشار إليها ضمنيًّا فيما يتعلق بضرورة خروج القوات الأجنبية والمليشيات المحلية من شمال إثيوبيا، وهو ما يثير المخاوف من دور تخريبي لحليفي آبي أحمد ربما يؤدي إلى انهيار الاتفاق والتسبب في اندلاع الصراع مجددًا في الشمال الإثيوبي مستقبلًا.
6- تجاوز مناقشة قضايا محورية: يرى البعض أن الاتفاق لم يعالج عددًا من القضايا الرئيسية التي تمثل أحد مسببات الصراع الإثيوبي الراهن، وعلى رأسها المساءلة حول الجرائم التي تم ارتكابها في الحرب الإثيوبية، خاصة أن الطرفين يتبادلان الاتهامات لبعضهما البعض بالتورط في ارتكاب جرائم حرب في المناطق الثلاث -تيجراي وأمهرة وعفر- ما يعكس تنامي مشاعر المظلومية لدى طرفي الصراع الإثيوبي، والذي قد يسهم في إشعال الحرب مجددًا في البلاد.
كما تمثل معضلة السيادة على منطقة غرب تيجراي المتنازع عليها بين إقليمي تيجراي وأمهرة تحديًّا أمام عودة الاستقرار في الشمال الإثيوبي. وإن كانت الحكومة الإثيوبية قد صرحت بأن تسويتها ستتم وفقًا للنظام الدستوري، وهو ما قد يرفضه أحد الطرفين متسببًا في تجدد الصراعات بالمنطقة[1].
7- تقديم الطرفين تنازلات متباينة: من الواضح وفقًا للاتفاق تقديم جبهة تحرير تيجراي تنازلات عسكرية تمثلت في القبول بتفكيك قوات دفاع تيجراي وتسريح مقاتليها، وإعادة دمجهم في المجتمع الإثيوبي، إضافة إلى السماح للقوات الإثيوبية الفيدرالية بالدخول إلى عاصمة الإقليم ميكيلي، وتأمين الحدود بين إقليم تيجراي وإريتريا.
في المقابل، قدمت الحكومة الإثيوبية تنازلات سياسية ممثلة في الجلوس مع جبهة تحرير تيجراي على طاولة المفاوضات برغم أنها صنفتها تنظيمًا إرهابيًّا في مايو 2021. كما أنها وافقت على بقاء جبهة تحرير تيجراي كتنظيم سياسي في البلاد، وهو ما يدحض الهدف الرئيسي لآبي أحمد وحلفائه من الحرب الإثيوبية في القضاء نهائيًّا على الجبهة من المشهد السياسي الإثيوبي.
8- الدور الأمريكي البارز في مفاوضات بريتوريا: أشار البعض إلى احتمال وجود صفقة قد أغرت جبهة تحرير تيجراي لتوقيع اتفاق بريتوريا الذي يجبرها على نزع سلاحها وتفكيكها. بينما هناك من يرى أن هناك تحولًا في موقف الإدارة الأمريكية تجاه إثيوبيا. فقد لعبت واشنطن دورًا مميزًا في الضغط على الجانبين من أجل الذهاب إلى بريتوريا في ظل إخفاق الجهود الإقليمية[2].
ويدلل عليه استمرار جهود المبعوث الأمريكي الخاص مايك هامر في المحادثات بهدف إنجاحها. بالإضافة إلى جولاته المكوكية عقب توقيع الاتفاق بين أديس أبابا وميكيلي عاصمة تيجراي. ويمثل ذلك استمرارًا لمحاولات واشنطن الوساطة بين أطراف الصراع، خاصة أنها قادت ثلاثة اجتماعات سرية خارج إثيوبيا أسفرت عن بدء هدنة مارس 2022 لمدة خمسة أشهر قبل انهيارها[3].
ويظل دور واشنطن ضروريًّا خلال الفترة المقبلة لا سيما فيما يتعلق برعايتها التزام طرفي الصراع الإثيوبي بتنفيذ بنود الاتفاقين خاصة عملية نزع السلاح وإعادة إدماج مقاتلي تيجراي التي ينسقها الاتحاد الأفريقي، وهو ما قد يفتح آفاقًا جديدة بالنسبة للعلاقات الأمريكية-الإثيوبية خلال المرحلة القادمة، في ضوء ترحيب الحكومة الإثيوبية بالجهود الأمريكية في الضغط على تيجراي، بعد فترة من التوتر دامت لعامين متتاليين.
حسابات الأطراف الفاعلة في ضوء توقيع اتفاق بريتوريا
كان لتوقيع اتفاق بريتوريا تأثيرًا واضحًا على الأطراف المعنية بالصراع الإثيوبي، خاصة أنه قد يعيد تشكيل حساباتها وفقًا لحجم المكاسب الاستراتيجية التي سيمنحها الاتفاق الأخير لها حال تنفيذه.
1- النظام الحاكم في إثيوبيا: يرى نظام آبي أحمد في توقيع اتفاق بريتوريا منقذًا قد يسهم في وقف الحرب الدائرة في شمال إثيوبيا. فهو من ناحية سيوقف نزيف الخسائر الاقتصادية المترتبة على استمرار الحرب، والتي أسهمت في تدهور الاقتصاد الإثيوبي منذ نوفمبر 2020. فقد تضاءل احتياطي العملة الصعبة في البنك المركزي الإثيوبي ليصل إلى مليار وستمائة مليون دولار، ما دفع أديس أبابا إلى اتخاذ إجراءات اقتصادية صعبة خلال الفترة الأخيرة لتحجيم الآثار الاقتصادية السلبية الناجمة عن الصراع الجاري في شمال البلاد، لا سيما في ضوء تراجع الاستثمارات الأجنبية بسبب اضطرابات الوضع السياسي والأمني الإثيوبي.
ومن ناحية أخرى، لا يرغب آبي أحمد في استمرار الحرب بهدف تجنيب إثيوبيا السيناريو الأسوأ المرتبط باندلاع حرب أهلية في البلاد. كما أنه يخشى تفاقم استنزاف قدرات قواته العسكرية، لا سيما أنها تقاتل في أكثر من جبهة للقتال. فضلًا عن التكلفة الباهظة للحرب الإثيوبية التي قد تعجز ميزانية الدولة الإثيوبية عن الوفاء بالتزاماتها تجاهها حال استمرار الحرب. إلى جانب تصاعد التوترات الأمنية في بعض الأقاليم الإثيوبية الأخرى مثل أوروميا.
ويحمل توقيع اتفاق بريتوريا في حد ذاته جملة من المكاسب للنظام الإثيوبي الحاكم، وإن كان الحصول عليها يتوقف على تنفيذ الاتفاق الأخير. وتتمثل أبرز تلك المكاسب في:
أ- استرداد جزء من شعبية آبي أحمد المتراجعة في الداخل الإثيوبي، وتحسين صورته على الصعيد الدولي أملًا في إزالة التوترات مع بعض القوى الدولية الفاعلة مثل الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي.
ب- احتواء جبهة تحرير تيجراي والقضاء على طموحاتها السياسية في الحكم مرة أخرى، بالإضافة إلى تجريدها من نفوذها العسكري في الداخل الإثيوبي، من خلال تفكيك قدراتها التسليحية وتسريح مقاتليها، ودخول القوات الفيدرالية إلى الإقليم الذي عصى عليه على مدار العامين الماضيين، والسيطرة على بعض المرفق الاستراتيجية مثل المطارات.
ج- قد يمثل الاتفاق خطوة مهمة لمساعي آبي أحمد لتحويل النظام السياسي إلى المركزي بدلًا من الفيدرالية العرقية، إذا ما نجح في تجريد كافة الولايات من قواتها العسكرية وأسلحتها.
د- تأمين طريق التجارة بين أديس أبابا وميناء جيبوتي الذي تعتمد عليه إثيوبيا في عبور أكثر من 95% من تجارتها مع العالم الخارجي من خلاله.
2- جبهة تحرير تيجراي: برغم ترحيب معسكر آبي أحمد في الداخل بتوقيع الاتفاق، خاصة أن آبي أحمد قد أكد أن حكومته قد حققت كل ما تريده من هذا الاتفاق. إلا أن الموقف جاء مغايرًا في إقليم تيجراي. فقد انقسم الموقف الداخلي تجاه الاتفاق. إذ رحبت اللجنة المركزية لجبهة تحرير تيجراي بالاتفاق معتبرة إياه سوف يحقق السلام ويضمن العدالة والمساءلة، وأنه يهدف إلى دعم الدستور الفيدرالي ووقف حرب الإبادة الجماعية المستمرة ووقف النزوح الداخلي لشعب تيجراي[4].
في المقابل، برز تيار معارض لاتفاق بريتوريا، حيث قال حزب سيلاسي وياني تيجراي المعارض أن الاتفاق غير مشروع لتمثيل مصالح شعب تيجراي، وأنه لا يتناول سوى مصالح الأطراف الموقعة عليه إلى جانب كل من إريتريا وأمهرة، في حين يتجاهل الاتفاق المطالب السياسي لتيجراي ولا يعالج الأسباب الجذرية للصراع. كما أكد الحزب مواصلة الكفاح لتحقيق الاستقلال القائم على الاستفتاء وفقًا للمادة (39) وسلامة أراضي تيجراي، فضلًا عن محاسبة مرتكبي الجرائم[5].
ورفض مؤيدو جبهة تيجراي بالشتات في أوروبا وأمريكا الشمالية الاتفاق الذي جاء بمثابة الصدمة لهم. ووجهوا اتهامًا بالخيانة لجبهة تحرير تيجراي. كما تعالت أصوات تميل إلى اعتبار الجبهة تمثل طرفًا واحدًا فقط ضمن أطراف أخرى في تيجراي وأنها لا تمتلك تفويضًا لتوقيع نزع السلاح من قوات دفاع تيجراي[6]، الأمر الذي دفع اللجنة المركزية لجبهة تحرير تيجراي للإعلان عن أنها لم ترسل فريقًا للتفاوض إلى بريتوريا، وأنه لا يوجد شخص يمثل الجبهة في المحادثات هناك، وأنه لا يوجد جيش للجبهة لكي يتم نزع سلاحه[7].
ومع ذلك، هناك عدد من المكاسب الاستراتيجية التي قد تحصل عليها جبهة تحرير تيجراي حال تنفيذ الاتفاق المبرم مؤخرًا، يتمثل أبرزها في:
أ- الحصول على اعتراف النظام الحاكم بحكومة تيجراي الحالية التي جاءت عقب إجراء انتخابات إقليمية في سبتمبر 2020 وكانت قد رفضتها الحكومة الفيدرالية، على نحو مثّل أحد مسببات اندلاع الحرب الإثيوبية الراهنة.
ب- التخلص من وصف "تنظيم إرهابي" الذي اعتمدته الحكومة الإثيوبية في مايو 2021، ورفع أسماء قادة الجبهة من قائمة الإرهاب، وهو ما يعني البقاء على قيد الحياة كتنظيم سياسي لديه مشروعية سياسية ويحق له المشاركة في المؤسسات الحكومية الاتحادية والتقرب من دائرة السلطة والحكم في إثيوبيا.
ج- الفصل في مصير منطقة غرب تيجراي المتنازع عليها مع قومية أمهرة، في ضوء تأكيد الحكومة الفيدرالية على إجراء استفتاء شعبي بالمنطقة على الانضمام لأي من الإقليمين.
د- الحفاظ على النظام السياسي القائم على الفيدرالية العرقية، وما يعنيه من استمرار الدستور الفيدرالي دون تدخل لإجراء تعديلات عليه من قبل النظام الحاكم. وإن كان ذلك مرشحًا للتغيير مستقبلًا.
هـ- فك الحصار المفروض على الإقليم، وما قد يترتب عليه من استعادة تيجراي الخدمات الأساسية للإقليم مثل الاتصالات والإنترنت وإعادة بناء الهياكل الأساسية، واستئناف وصول المساعدات الإنسانية والطبية إلى تيجراي.
3- قومية أمهرة: رغم غياب حكومة إقليم أمهرة عن المشاركة في مفاوضات بريتوريا باعتبارها حليفًا رئيسيًا لآبي أحمد في الحرب الإثيوبية، إلا أن موقفها من الاتفاق جاء إيجابيًّا. فقد رحبت بالاتفاق، وعبرت بعض الأطراف التابعة لها عن ترحيبها بالاتفاق، مثل تحالف أمهرة العالمي الذي أيد وقف الأعمال العدائية بشكل دائم، ونزع السلاح من قوات دفاع تيجراي وتسريح عناصرها[8].
فيما اعتبرت ميلشيا فانو الأمهرية أن الاتفاق هو خطوة إيجابية، لكنها أبدت سخطها لأن الاتفاق قد أيد الدستور الفيدرالي الحالي، والذي تعتبره ضد مصالح أمهرة.
وإن كانت حكومة أمهرة قد أكدت أيضًا في بيان لها على ضرورة حل النزاع في منطقة غرب تيجراي. كما تساءلت حول عدم تمثيلها في المفاوضات إلى جانب إقليم عفر. فضلًا عن غياب محاسبة جبهة تيجراي على جرائمها في كل من أمهرة وعفر. فيما شكك بيان أمهرة في نوايا قادة تيجراي بأنهم لن يتخلوا عن حلم دولة تيجراي الكبرى، وما يتطلبه من غزو لجيرانها لتحقيق هذا الحلم المستمر منذ عام 1975.
ورغم ذلك، تتمثل أبرز مكاسب قومية أمهرة من اتفاق بريتوريا في:
أ- وقف الحرب الدائرة في شمال البلاد، وبالتالي إيقاف تغلغل قوات دفاع تيجراي وسيطرتها على بعض المدن والبلدات في إقليم أمهرة. والبدء في البحث عن تمويل لإعادة الإعمار بالمناطق المتضررة في الإقليم.
ب- احتمال استمرار السيطرة على منطقة غرب تيجراي التي استحوذت عليها عقب اندلاع الحرب في نوفمبر 2020 لحين الفصل في أمر سيادتها عبر الاستفتاء الشعبي وفقًا لما صرحت به الحكومة الفيدرالية مؤخرًا.
ج- التفوق العسكري النوعي على جبهة تحرير تيجراي في حالة تنفيذ بنود اتفاق بريتوريا بتفكيك قوات دفاع تيجراي، وتسريح مقاتليها، بحيث لا تشكل تيجراي تهديدًا لأمهرة في المستقبل.
4- إريتريا: يدرك الرئيس الإريتري أسياس أفورقي أنه أضحى رقمًا صعبًا في المشهد الإثيوبي الصراعي خلال الفترة الأخيرة، كونه حليفًا رئيسيًّا لآبي أحمد في حربه الأخيرة على إقليم تيجراي، التي لم يكن بمقدور الجيش الإثيوبي الصمود أمام مقاتلي تيجراي لولا تورط أسمرة في هذا الصراع. إلى جانب تحالفه مع إقليم أمهرة بما في ذلك ميلشيا فانو الأمهرية.
بالإضافة إلى احتضانه في الداخل الإريتري لمجموعة مسلحة معارضة لجبهة تحرير تيجراي والمعروفة باسم "دمهيت" Demhit، والتي يمكنه توظيفها مستقبلًا في تهديد سلطة قادة الجبهة في الإقليم[9]، وهو ما يعني امتلاكه لأوراق ضغط قوية تجاه جميع الأطراف الإثيوبية بما فيها آبي أحمد نفسه، لا سيما أن أسمرة تحتضن بعض القوات الإثيوبية الحكومية التي انتقلت للداخل الإريتري قبل بدء الجولة الثالثة للحرب في 24 أغسطس 2022[10]. إلى جانب إمكانية تقديم أفورقي الدعم اللوجستي إلى بعض الحركات المسلحة في الداخل الإثيوبي مثل جيش تحرير أورومو وبعض الميلشيات في بني شنقول-جوموز.
ومع أن الجانب الإريتري لم يعلن رسميًّا عن موقفه من اتفاق بريتوريا الأخير، إلا أن هناك بعض الآراء التي تشير إلى عدم معارضة أسمرة للاتفاق، مبررة ذلك بأن آبي أحمد لم يكن ليبرم اتفاقًا مع تيجراي بدون موافقة أفورقي. فمن مصلحة إريتريا التأكد من أن الجبهة لا تشكل تهديدًا وجوديًّا لنظامها الحاكم وسلامتها الإقليمية. وربما يقلل حدة القلق الإريتري نجاح أديس أبابا في تفكيك قدرات تيجراي العسكرية حال التزام قادة تيجراي بتنفيذ بنود اتفاق بريتوريا.
ويمكن الإشارة إلى أبرز مكاسب الجانب الإريتري من اتفاق بريتوريا على النحو التالي:
أ- سيطرة الحليف الرئيسي آبي أحمد على كامل إقليم تيجراي سياسيًّا وعسكريًّا، وما قد يعنيه ذلك من ضمان عدم تهديد جبهة تحرير تيجراي للنظام الإريتري الحاكم، وتبديد أحلامها في إقامة دولة تيجراي الكبرى على الأقل في المدى المنظور.
ب- إفلات النظام الإريتري من المحاسبة بشأن الانتهاكات التي زعمت تقارير دولية بارتكاب القوات الإريترية لها في إقليم تيجراي خلال الفترة الماضية.
ج-تخفيف حدة الانتقادات الدولية للنظام الإريتري بسبب تورطه في الحرب الإثيوبية بشمال إثيوبيا، وإمكانية تقريب وجهات النظر مع بعض القوى الدولية في ضوء التحولات الاستراتيجية التي تشهدها المنطقة.
عقبات تنفيذ اتفاق بريتوريا
برغم التزام طرفي الصراع الإثيوبي بتوقيع اتفاقي بريتوريا ونيروبي وهو خطوة مهمة، إلا أن هناك جملة من التحديات التي قد تعيق تنفيذ هذا الاتفاق خلال الفترة المقبلة. والتي يتمثل أبرزها في:
1- ضعف الثقة بين طرفي الاتفاق: فلا يزال النظام الإثيوبي ينظر إلى جبهة تيجراي على أنها منظمة إرهابية كما عبر عن ذلك آبي أحمد بعدم معارضة حكومته الجلوس على طاولة المفاوضات مع منظمة إرهابية. وإن كان الإعلام الإثيوبي قد توقف عن وصف الجبهة بالإرهابية في اليوم التالي لتوقيع الاتفاق. فضلًا عن استمرار مطالبة قطاع من النخبة الإثيوبية بالقضاء على جبهة تحرير تيجراي برغم توقيع الاتفاق باعتبارها مهددًا رئيسيًا للدولة الإثيوبية وأنها ستظل شوكة في طريق تقدم إثيوبيا واستقرارها. كما تتزايد الشكوك حول التزام جبهة تحرير تيجراي بتنفيذ الاتفاق الأخير، ويراها البعض غير جديرة بالثقة في تطبيقه.
في المقابل، يدرك قادة تيجراي حرص معسكر آبي أحمد على التخلص منها بشكل نهائي، وهو ما قد يعرقل تنفيذ الاتفاق المبرم مؤخرًا لا سيما فيما يتعلق بنزع سلاح الجبهة بشكل نهائي.
2- افتقار الاتفاق إلى آليات للتنفيذ: افتقر الاتفاق لأي آلية لتنفيذه باستثناء بعض الحوافز للطرفين لإنهاء الحرب، حتى أن الاتحاد الأفريقي قد عين لجنة مكونة من 10 خبراء أفارقة لإنشاء آلية مشتركة بهدف متابعة تنفيذ الاتفاق وهو عدد صغير مقارنة باتساع النطاق الجغرافي منطقة تيجراي.
كما أن نفوذ الجهات الدولية الفاعلة التي شاركت في محادثات بريتوريا ربما يتقلص نفوذها وضغوطها على طرفي الصراع الإثيوبي. وتجدر الإشارة إلى أن هناك بعض المواد ربما يكون من الصعب تنفيذها أو ربما يستغرق تنفيذها عدة شهور أو سنوات.
3- صعوبة تجاوز المظالم المجتمعية: وذلك من جانب جميع الأطراف في ضوء الاتهامات المتبادلة بين الأطراف الفاعلين في الصراع الإثيوبي بارتكاب جرائم حرب، ومطالبة البعض في المعسكرين بمساءلة مرتكبي الجرائم، وهو ما يمثل وقودًا يهدد باشتعال الحرب مجددًا في البلاد، ويقف عائقًا أمام إحلال السلام في إثيوبيا.
4- الخرق العسكري للاتفاق: أشارت تقارير إلى استمرار العمليات العسكرية من جانب القوات الإثيوبية والإريترية في إقليم تيجراي. فقد تورطت الطائرات الإثيوبية بدون طيار في استهداف بعض المواقع بالإقليم عقب توقيع اتفاق بريتوريا. كما تورطت القوات الإريترية أيضًا في شن هجمات في داخل إقليم تيجراي. فضلًا عن عمليات التدمير والنهب والقتل في بعض المناطق هناك[11]، وهو ما قد يعصف بالاتفاق لتندلع الحرب مجددًا.
5- تحول موقف أمهرة تجاه الاتفاق: تشترط قومية أمهرة أن أي ترتيب مستقبلي في المنطقة لا يعترف بملكية أمهرة لأراضي غرب تيجراي المتنازع عليها مع تيجراي يعني أنه لن يكون هناك سلام دائم في المنطقة، الأمر الذي يعزز المخاوف من تجدد الصراع في الشمال الإثيوبي.
6- الحضور الإريتري في المشهد العملياتي: ينظر البعض إلى أسمرة كأحد أبرز التحديات لتحقيق السلام في شمال إثيوبيا. ففي حالة شعور أفورقي بالخطر، ربما لا يلتزم بمخرجات اتفاق نيروبي بشأن سحب قواته العسكرية من الشمال الإثيوبي. وقد يوظف وكلاءه في تصعيد المشهد العملياتي مجددًا في شمال إثيوبيا لزعزعة استقراره وإفشال الاتفاق.
وإجمالًا، في ضوء ما يواجهه اتفاق بريتوريا من انتقادات تتعلق بعدم معالجته للأسباب الرئيسية للصراع الإثيوبي، وصعوبة تنفيذ بعض بنوده الأخرى، والتي ربما تعكس مسارعة الأطراف المعنية بالتوقيع على الاتفاق بهدف تسريع وقف إطلاق النار بسبب تفاقم الأوضاع في شمال إثيوبيا، تتزايد التكهنات بشأن مستقبل هذا الاتفاق، نظرًا لكونه خطوة أولية في مسار طويل معقد مُثقَل بالعديد من التحديات والمعوقات حتى يمكن التوصل إلى اتفاق سلام شامل في إثيوبيا يجنبها المزيد من الآثار السلبية الناجمة عن استمرار الحرب في شمال البلاد.
ولكي تنجح إثيوبيا في هذا الاختبار الصعب، ينبغي توافر الإرادة السياسية من جانب طرفي الاتفاق للالتزام بتنفيذ بنوده، وتقديم المزيد من التنازلات من أجل إحلال السلام، إلى جانب ضرورة تحييد بعض الأطراف الفاعلة في الصراع الإثيوبي لا سيما قومية أمهرة وإريتريا خوفًا من لعب دور سلبي يؤدي إلى انهيار الاتفاق. ولا يمكن إغفال ضرورة استمرار الاعتماد على الدعم الدولي والإقليمي في رعاية مراحل تنفيذ الاتفاق، وما يتطلبه من ممارسة المزيد من الضغوط على جميع الأطراف المعنية للحيلولة دون تجدد الحرب مرة أخرى. المصدر >>>>>>>
Comments