top of page
tvawna1

ما وراء اليمين واليسار

Updated: Jul 12

بقلم الاستاذ / فتحي عثمان 10/07/2024

فوز اليسار في بريطانيا وفرنسا ومعركة الانتخابات الرئاسية في أمريكا تعيد إلى الواجهة أزمة الإدارة السياسية في الدول الكبرى. استخدم عنوانا لهذا المقال عنوان كتاب عالم الاجتماع الأمريكي انطوني غيدنز: ما وراء اليمين واليسار: مستقبل السياسة الراديكالية، لتجاوز التعليق


السياسي العابر على ما حدث للنظر إلى ما وراء الحدث وتفاعلاته. بالإضافة إلى كتاب غيدنز هناك كتاب المحاضر في الكوليج دو فرانس باسكال بيك: من سيستولي على السلطة؟ القردة العليا، أم الساسة أم الروبوتات؟ وكتاب وليام سي بيرمان: جنوح أمريكا إلى اليمين من نيكسون إلى كلنتون وأخيرا وفي بريطانيا كتاب أوين جونز: المؤسسة: كيف ينجون من المساءلة. هذه الكتب تمضي إلى ما وراء المعارك الانتخابية والسياسية لسبر أغوار لماذا وصلت الأمور في هذه الدول إلى ما وصلت اليه؟ وأي أفق ينتظر مسألة دور الدولة في الديموقراطيات الغربية. وهذه المقال ليس عرضا لمحتوى هذه الكتب بقدر ما هو توظيف للمنهج المماثل في تتبع ورصد ما وراء معركة اليمين واليسار في هذه الدول.

أمريكا

جاء تقدم اليمين المتشدد الأمريكي بسبب أزمات عميقة في الاقتصاد والسياسة والاجتماع ودفعت تلك الأزمات إلى الواجهة دونالد ترامب مع تجدد احتمال فوزه في الانتخابات المقبلة. العوامل النفسية تقف وراء الخيارات السياسية الحاسمة للمواطنين. فاليمين يخاطب المشاعر والمخاوف عبر الإثارة، ولهذا الخطاب نجاح متواصل في أوساط فئة كبيرة من الجماهير لها مخاوف مبررة ومستوى تعليمي محدد وكذلك رغبة جامعة في التغيير بعد سنوات من الخيبة من الأداء السياسي العام. فحسب الدكتور روبرت لوستيج في كتابه قرصنة العقل الأمريكي: دور العلم والمؤسسات في الاستيلاء على العقول والأجساد، حيث يتناول دور الشركات والعلم في الاقناع بالسلوك الاستهلاكي كأساس للسعادة يؤكد لوستيج بأن 5 في المئة من سكان العالم يعانون من الاكتئاب منهم 22 في المئة في الولايات المتحدة. ويشير إلى أن الصيغة العامة للحياة أصبحت هي إحلال الملذات محل السعادة الحقيقية. وعند تلك النقطة تصبح كل لذة في المتناول وبعد الحصول عليها يحدث الانطفاء والانكفاء المرضي. هذه هلي الخلفية النفسية التي تتم فيها العمليات الانتخابية في الدول الكبرى اليوم. تحول أمريكا إلى اليمين جاء بعد انتهاء ما يعرف بالصفقة الجديدة (نيو ديل) للرئيس فرانكلين روزفلت في الفترة من 1933 إلى 1939 وهي الخطة التي صمتت لمواجهة الكساد العظيم وأمواج العطالة في البلاد، وأدت إلى تحقيق انتعاش الاقتصاد وتدخل الدولة لصالح الرعايا الاجتماعية وتحديث البنية التحتية وكانت بمثابة تحول اقتصادي واجتماعي كبير وإن كانت الفئات الاجتماعية الأخرى كالسود ترزح تحت وطأة معاناتها التاريخية. مع مجيء الرئيس رونالد ريغان اسفرت سياسات اليمين النيو ليبرالي عن وجهها واتخذت شعار رفع الدولة عن كاهل المواطن وكان ذلك تاليا لحرب فيتنام وارتفاع الدين العام والتضخم والانفاق العسكري والعطالة مع ارتفاع أسعار الطاقة وتنامي عدم الشعور بالأمان والمخاوف وانتشار ثقافة الاستهلاك والحاجة إلى المزيد من كل شيء.

فرنسا

بعد حل الرئيس ماكرون للجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان) بعد خسارة حزبه في الانتخابات البرلمانية الأوروبية، نجح التجمع الوطني لليمين المتطرف في التقدم في الجولة الأولى، ولكن اليسار استطاع كبح هذا التقدم في الجولة الثانية من الانتخابات. الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي أدلى بملاحظة عميقة الدلالة حول حل ماكرون البرلمان عندما قال بأن ذلك القرار سيخلق أزمة سياسية عميقة في البلاد وهذا ما حدث. ففرنسا مرت بتجربة تاريخية كان فيها الرئيس من يمين الوسط ورئيس الوزراء من اليسار فيما وصف حينها ب "التعايش". ولكن هذا التعايش انتفى اليوم بسبب "الاستقطاب السياسي الحاد" بين اليمين واليسار، وهو ما لا يترك مجالا وسطا لتكوين ائتلاف حاكم، ففرنسا ليست مثل اسبانيا وإيطاليا أو دول الشمال الأوروبي التي تنجح في تكوين الائتلاف الحاكم بين الخصوم المتنافرين، لأن تجربة الحكم في الجمهورية الخامسة اعتمدت دوما على حكم حزب واحد. ولكن هذا الأمر تغير اليوم مع التقدم الكاسح لليمين المتطرف. الخلفية الاجتماعية للتصويت تشير إلى أن العمال والحاصلين على تعليم أقل من المرحلة الثانوية كانوا هم الأكثر تصويتا لليمين المتطرف.

ففي أوساط العمال صوتت نسبة 57 بالمئة من الناخبين لليمين المتطرف مقابل 21 في المئة فقط لليسار، أما في أوساط الموظفين فمالت الكفة لصالح اليسار بنسبة 34 في المئة بينما حصل اليمين المتطرف على 21 في المئة من الأصوات، فبينما تشير الأرقام أعلاه للوضع الطبقي والوظيفي فإن الموضع التعليمي مرتبط بهما حيث صوت 49 من غير الحاصلين على الشهادة الثانوية لليمين المتطرف بينما صوت 17 منهم فقط لليسار، أما في وسط طلاب الجامعات والمعاهد العليا فإن الكفة مالت لصالح اليسار حيث صوت له 37 في المئة مقابل 22 في المئة. وهذه الاحصائيات مأخوذة عن معهد ابسوس الفرنسي للاستطلاعات.

يلاحظ أن القاعدة الانتخابية لليمين المتطرف في أمريكا هي العمال البيض وفي فرنسا كذلك هي فئة العمال وقليلي التعليم، ويعيدنا ذلك إلى نقطتي إثارة المخاوف والمشاعر التي يعتمد عليها اليمين المتطرف دوما كأجندة سياسية، فعند خسارة الجولة الثانية صرح جوردان بارديلا رئيس حزب التجمع الوطني بأن حزبه خسر بسبب "تحالف العار" وأن سياسات ماكرون القت بفرنسا في حضن اليسار. لا تخلو كل دعاية انتخابية عند ترامب أو لوبن وغيرهم من نجوم اليمين المتطرف من الكراهية وإثارة المخاوف والمشاعر والذي يجد صدا كبيرا من الفئات الاجتماعية التي تمثل قاعدة انتخابية واسعة بالنسبة لهم ويمكن عبر الاستطلاعات والتحليل الرقمي كشف الخلفية الاجتماعية والعلمية لهم.

التحولات الاقتصادية التي شهدتها فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية تشبه إلى حد ما تلك التي شهدتها الولايات المتحدة. فبحلول عام 1975 انتهت فترة ما عرف هنا بفترة الثلاثين المجيدة أو الزاهرة (ليه طرانت غلوريوس) وهي التي بدأت في اعقاب الحرب العالمية الثانية وشهدت إعادة اعمار فرنسا والنمو الاقتصادي المتسارع وتحسن الظروف المعيشية للسكان وتحسين نظام الضمان الاجتماعي والتقدم العلمي والتقني إضافة إلى هجرة العمالة من دول المغرب العربي والبرتغال التي كانت تحت ديكتاتورية سالازار واسبانيا التي كانت تحت فاشية الجنرال فرانكو. تلك كانت الفترة الذهبية لفرنسا من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والتي انتهت مع عقد السبعينات وزيادة أسعار الطاقة والتضخم مما فتح الباب لليمين المتطرف لكسب قاعدة اجتماعية من الثمانينيات وحتى اليوم. تعليق مارين لوبان على خسارة حزبها للانتخابات كان ذا مغزى ودلالة كبيرة لم يتنبه لها الكثيرون فهي أكدت بأن حزبها سيوظف هذه الخسارة لكسب الانتخابات الرئاسية القادمة في عام 2027 وهو ليس مستبعدا بناء على مؤشرات التقدم الراهنة وثانيا بسبب التشظي النووي لليسار.

أخيرا فإن أهم التحولات التي يجب التوقف عندها في هذه التغيرات العميقة هو موقف الطبقة العاملة التي لم تعد تحتمل التوصيفات التقليدية لليسار، خاصة وأنها كانت على مدى عقود طويلة القاعدة الانتخابية المتينة لليسار في كل من إيطاليا وبريطانيا وفرنسا. هؤلاء العمال في المحصلة الأخيرة هم بشر من لحم ودم وطموحات إنسانية مبررة ومشروعة ومخاوف مبررة ونجاح اليمين في استمالة هذه الطبقة هو تحطيم للقاعدة الأساسية لليسار. في الحرب العالمية الأولى سادت قناعة في أوساط اليسار بأن التحالف العريض لعمال العالم قد يوقف الحرب، بحيث ينحاز عمال بلجيكا وألمانيا وفرنسا وألمانيا إلى قضاياهم الجوهرية ضد الحرب ومؤججيها ولكن تلك التوقعات ذهبت أدراج الرياح إذا انحاز العمال إلى بلدانهم وقومياتهم على حسب انتماءهم الطبقي وأصبحوا وقود الحرب حتى نهايتها.

اليوم ينحاز العمال إلى مخاوفهم ومشاعرهم وظروفهم الخانقة على حساب وعيهم الطبقي المفترض ويدعمون القاعدة الانتخابية لليمين المتطرف، وهذا ما يجب التوقف عنده في معممة الانتخابات في أوروبا وامريكا. ففي بريطانيا ورغم فوز العمال إلا أن منسوب الإحباط من اليسار لا زال مرتفعا.

التحولي الجوهري الثاني الذي يجب التوقف عنده وبعمق وتروي هو الدور الاجتماعي للدولة، فسياسيات اليمين المتطرف تنحو إلى تقليص الدور الاجتماعي للدولة لصالح الفرد كما صرح ريغان بإزالة الدولة عن كاهل المواطن من حيث الاعتماد المتبادل: اعتماد الدولة على المواطن واعتماد المواطن على الدولة. ستكون هذه التحولات "الراديكالية" هي الملعب الذي سوف تحسم على أرضيته توجهات السياسة في الديموقراطيات الغربية في العقود المقبلة. وربما تعيد هذه التحولات إلى الذاكرة الجمعية شكوك وارتياب افلاطون أول مفكر سياسي في التراث الغربي بافتراضه المدعم بأن الديموقراطية إنما هي حكم الرعاع.

40 views0 comments

留言


bottom of page