قوتها انها انثى من مدينة كرن
- tvawna1
- Jul 5
- 5 min read
Updated: Jul 6

حين أخبرتني في التليفون بأن حلمها تحققُ ونالت شهادة البكالوريوس من الجامعة لمعت في عيني صور وذكريات وهي تشاركني تفاصيل فرحتها الاولى.
في لحظة سكوت تأملت حالها ، معاناتها ، آلامها ، تراكمات اوجاعها واتساع جرحها وصمودها أمام كل هذه الظروف لتنال هذه الشهادة الجامعية.
اليوم سأكتب لكم عن زهور ابراهيم جمع ، بنت المعتقل الاستاذ ابراهيم جمع حامد وابنه المعتقل عبد الوهاب ابراهيم جمع ؛ البنت التي شقّت طريقها كأم للاطفال وطالبة في الجامعة وعاملة لساعة طويلة في المركز الصحي النرويجي. وما اكتبه اليوم عنها وعن عائلتها ليس سوى ترجمة لمشاهد تراكمي كان عالق في ذاكرتي لمدة أربعة عقود .
هكذا بداءت القصة ... بعد سماع نداء المؤذن الشيخ موسى "رحمه الله" لصلاة المغرب في المسجد الكبير تسللت عليها من الشباك عتمة نهاية النهار ونامت كالعادة .
وفجأة في ظلام دامس من ديسمبر 1994 سمعت أصوات تسلق جدران بيتهم فانطلقت إلى النافذة أصابها هوس ترصد الاحتمالات حتى تفاجأت عند ما داهمو جنود مدججين بالسلاح بيتهم ثم اقتادوا اخوها الكبير عبد الوهاب الى مكان مجهول . عبد الوهاب الذي كان مرشدها ، وقدوتها في تشكيل شعور طفولتها لم يكن لها مجرد أخ بل كان بمثابة الاب رغم انه لم يصل لذات المكانة العلمية والعمرية التي وصل اليها والدها لكنه على الأقل حملَ جزءاً من قيم واخلاق أبوها الذي اعتقل في ابريل 1992.

كانت لحظات قاسية اثناء تعرضهم للمداهمة كانو صغار السنة ولقلة خبرتهم بمواجهة مثل هذا الوضع المفاجئة اصبح الخوف والهلع بالنسبة لهم حالة وجدانية لسنوات مصحوبا بنوبات القلب. خوف شديد وقلق متسارع في نبضات قلب اختها ، صراخ و بكاء وهلع في صوت اخوها الصغير .
لكن أمها ادركت بان المعركة التي ستخوضها مع هذا النظام الظالم في مطالبة الإفراج عن زوجها وأبنها مليئة بالعثرات و أمامها خياران لاثالث لهما إما أن تحترق بنار الانتظار والحزن واليأس وتطفي مستقبل أطفالها وتعيش في الظلام أو إما ان تجمع أطفالها وتبني لهم سلّمًا ليشعلوا شعلة المستقبل يمضون بها نحو النجاح والتقدم والازدهار. أختها "حنان" ايقنت بأن دائرة المسئولية حولها تزداد حتى بذلت قصارى جهدها ، لا راهنت على أحد الى الله سبحانه وتعالى وفكرت في كل شيء حتى أصبح الهم ثقيلًا عليها وسافرت خارج البلاد للعمل. عاشت زهور طفولة حادة وجعها كان اكثر من متعتها كان بإمكانها أن تكبر وتغفو علي صدر ابوها وكان بإمكانها أن تصحو في الصباح مثل اي طفل وتحظى بقبلات والدها واخوها .
و في لحظة طفولة بريئة أتى ليها خنجراً حادا زودا آلامها، توفى اخوها و توفيت اختها التي كانت تلعب معها في نهاية التسعينات من القرن الماضي .الوفاة كانت صاعقةً بالنسبة لها لم تتحملها كثيراً مزقت كل جزء بداخلها حتى بدأت تشعر أنّ كل شيء من حولها يتلاشى وتسلل عليها الحزن ورماها إلى عزلة قاتلة. ما أثقل شيء أن تكتشف فجأة ان اخوانها الذين شاركتهم ضحكتها الطفولية وأسرارها الصغيرة قد اختفوا من حياتها.
واخير هاجرت الى السودان من البيت التي عاشت فيه أكبر قدر من ذكرياتها المؤلمة ، لن يتوقف الأمها حتي في السودان كل شيءٍ من حولها كان يذكّرها بالمآسي الذي عاشته في مدينة كرن و كلما تجاوزت ألماً كانت تقع في ألم أشد منه.
لكن حين كان كل شي من حولها مظلما تعرفت على الشاب الخلوق "ادريس" الذي كان قلبه ينبض بحبها حاملا لها بصيصًا من الأمل في هذه الحياة ، ادريس الشاب القادم من مدينة "افعبت" نظر في انوثتها احلامه المستقبلية لتكون له أم اطفاله وارتسم الفضول في ذهنه ليطلبها للزواج من اهلها رغم انها كانتْ طالبة في بدايةِ المرحلة الثّانوية وكانت سعيدةً بإنجازاتِها في المدرسة وفخورةً بتفوّقِ أخوها الحسن في دراسته الجامعية وكانت تتّخذه مثَلها الأعلى في الاجتهادِ والمثابرة والتّميز.
وبعد سنة من زواجهما تساءلُت عمّا يحدثُ لها من مغص في البطن والخمول الجسدي حتى تخبرها الدكتورة بأنها حامل ، فتلقّت الخبرَ بهدوءٍ سرعان ما تحوّلَ إلى فرحة كبيرة من زوحها ادريس ولم تمضِ أشهرٌ حتّى بشّرَهم الله بأنثى ممّا استدعى راحةً تامّة لها وتلبيةِ طّلباتها من زوجها على كلّ صغيرةٍ وكبيرة تتعلّقُ بالحمْلِ حتّى جاء يومُ المولوده واستقبلَوا بحفاوةٍ طفلتهم بقدْرِ فرحِ الكون وسموها "منيرة" لتضئ لهم الطريق على اسم اختها المرحومة التى توفيت في مدينة كرن.
مرّتْ سّنتين و كبرت الطّفلُة "منيرة" و عاشت رحلة بحرية كئيبة يلفها الظلام محشورة فيها مع امها في البحر الابيض المتوسط في مركب حامل في جوفه الأرملة مع اطفالها والمطلقة والعازب والمقاتل والاستاذ والطالب. بنتها "منيرة" كانت صغيرة ما كان يؤنسها شي سوى تلاطم الامواج في احتكاكه المتواصل مع المركب الصغير ، أمها كانت تطمئنها أنها لا تزال يقظة في هذا المجازفة البحرية. تلاشى الجوع والعطش والخوف منهم سريعا عندما اقترب مركبهم الى شاطي ايطاليا.
وصلت زهور وبنتها منهكة بعد رحلة دامت ايام متواصلة . تدافعو المهاجرين للنزول وازدحام كبير يملأ الشاطي يشكرون الله على سلامة وصولهم ،أحضان وقبلات ودموع وشوق ولهفة بعد وصولهم الى النرويج .
وبعد ما وصلت الى النرويج توقف كل شي عن النبض و في لحظة لن تتوقعها تجمّد الزمن عليها عند سماعها من الشرطة النرويجية انها من "السودان" وليست من "ارتريا" . لحظة ادراك كانت بداية مأساتها في النرويج .تعثّرت خطاها وتمنت وسط هذه العتمة عن بصيصٍ امل تستقر فيه مع زوجها ادريس و بنتهم "منيرة" في النرويج. انتزعت من رئتها شهقة وظنت أنّ أمل الاقامة في النرويج قد خمد نوره حتى وجدت نفسها غارقة في دوّامة من جلد الذات والقلق والتعب. في هذه الفترة كانت تفتّش عن لحظة هدوء عن انسان دافئ يحتضن خوفها و يطمئن قلبها. تسللت عليها روح الاتصال بوالدتها ام عبد الوهاب "الله يرحمها ويغفر لها" لتدعوا لها بالفرج القريب في ظلمة انطفاء املها من السلطات النرويجية. جربت كل الطرق لكى تبقى في النرويج تخلصت من الضغوطات لتواصل تعليمها وتترقب اى علامات تدل على أمل من دائرة الهجرة النرويجية لتمنحها فرصة للحصول على أقامة دائمة في النرويج ، ليس سهلا ياناس ان تعيش بدون أقامة في النرويج ، ليس سهلا أن تستقر فى منزل ربما تداهمه الشرطة في اي وقت من الليل، ليس سهلا ان تنام مطمئن وتتسم بالعقلانية في هذا البلد بدون ان تملك اوراق ثبوتيه. خياراتها تقلصت وكل الدلالات القانونية كانت تقول سيلحقها الطرد من النرويج الى السودان لا محالة منه .
لكن قوة داخلية الإلهية مكنتها من مواجهة كل هذه الشدائد والمصائب بوعي وحكمة، من دون أن تسمح لآثارها أن تدمّرها على المدى البعيد، أو أن تُفقد بوصلتها في الطريق وان لا تجعل من قدرها سببًا في تدمير مستقبل اطفالها أو تعطيل أحلامها إلى الأبد.
هذه هي زهور التى آمنت بقدراتها وبداءت بخطوة صغيرة ، وادركت أن النجاح في التعليم ليس حكرًا على احد ، هذه هي زهور التى جعلت من التحديات سلّمًا تصعد به نحو القمة و برزت لنا كمنارة أمل في مجتمعنا الذي يعاني من تشجيع المراة في التعليم.
واخيرا تحقق الحلم و لا يمكن الحديث عن نجاح هذا الحلم دون الإشارة إلى زوجها "ادريس" الذي ساعدها على اجتياز هذه المحنة .
كلمة اخير ...
قصة زهور ليست مجرد سرد بل دعوة مفتوحة لكل اب وزوج وأخ ليكون سندا للأنثى التى تحمل حلمًا او هدفا ... لأن الانثى هي الأساس في بناء الأسرة والمجتمع والوطن التي تبنى من خلالها الحضارات ...
ودحنكم
جمعة مباركة
بقلم الاستاذ / الأمين اب كير
Comments