بقلم الاستاذ / عبدالجليل الشيخ
20/11/2023
فاصلة:" كتبت مي زيادة عن وردة اليازجي:"ففي حديقتها ورود باحثة في اللطف والمجاملة، وأخرى حمراء قانية في المودة والشوق والقسم الطاغي، وهي ورود قاتمة. ورود الفراق والحداد، ورود الرثاء والنحيب المبللة بدموع العيون، المفتحة بزفرات القلوب"("باقات من حداائق مي"، بيروت 1973م-ص:188).
ما أشبه هذه الحديقة بديوان "إلا أنا".. للشاعرة أم أيمن شريفة بنت محمد العلوي (1970-2013م)، المولودة في ريف (بدا) باقليم دنكاليا في دولة أريتريا. حينها كانت اريتريا في حالة حرب الاستقلال حتى أصبحت البندقية لغة الحوار بين الأشقاء. فكأن مغادرة وطنها مع عائلتها الى جيبوتي، ثم السعودية حيث تزوجت و انجبت خمسة أبناء (أربعة أولاد وبنت). و درست في مدرسة والدها في أريتريا، و المتوسطة في المدرسة العراقية في جيبوتي. و الثانوية في جدة مع دورات تأهلية بدرحة دبلوم ، و اتمتها بحصولها على البكالوريوس في العلوم السياسية. و تأثرت بمدرس اللغة العربية العراقي التش شكّلت بداية عشقها للشعر و الكتابة الأدبية.
"إلا أنا".. إصدار طيوف للنشر – القاهرة 2011م. و يحتوى على تسع وثلاثين قصيدة، تكشف فيها الشاعرة عن رؤى وتصورات ضمن فن تشكيل الصورة، وإسقاطها على الواقع في لغة تعبيرية غيرية بعد أن تجاوزت شرنقة الذات، بتوظيف البعد التأريخي للمكان والأزمنة المفتوحة. وهو الإصدار الثاني بعد ديوانها "زخرف البلح"، إصدار طيوف، القاهرة 2010م، والمطرز بالإهداء إلى والديها وزوجها. وكلمة المقدمة سطرتها الشاعرة و الناقدة السعودية لميس الإمام .
تصدرت الصفحات الأولى كلمة الإهداء من الشاعرة، ومقدمة للدكتور هاشم جمال الدين الشامي، بالإضافة إلى كلمة الناشر. ومن خلالها يتضح أن الشاعرة "ذات مكانة اجتماعية بصفتها أسرة علماء دين وأدباء" في منطقة المثلت العفري. بالإضافة إلى تحديد مؤثرات وروابط البيئة الثقافية العربية بين ضفتي البحر الأحمر. وبالتالي التعرف على بعض مكونات الإطار الثقافي والمعرفي لتجربتها الشعرية.
سطرت الشاعرة كلمة الإهداء إلى والدها و أعمامها (ص:3):"إلى فرساني الثلاثة". إلى أبي .. ذلك المربي الفاضل الذي ربا على يديه النشء يافعاَ مستنيراَ. و ما زالت أفكاره النيرة تزدهر في حقول الرؤى بين النهى رغم تواريه الثرى"." إلى عمي الشيخ إبراهيم عبدالرحمن.. كلما تناهت إلى سمعي سيرتك العطرة أشعر بأني أخترق اليك جدار الزمن يا فارس الكلمة "."إلى عمي سيد عبدالله عبدالرحمن العلوي.. أيها النور الذي عايشته عهدا من الزمن حتى أصبح جهلي بالعتمة تفوقاً يا من أذهلني بحواره الثقافي الراقي"(ص:4).
أستبشر الشامي(*) بالشاعرة بقوله:" أود أن أبدأ في هذه المقدمة بالقول بأنني مستبشر بالإنتاج الشعري للسيدة شريفة محمد عبدالرحمن العلوي، حيث أرى فيه بوادر تقدم نهضة نسائية كنا نفتقرها إلى ماض قريب في شرق أفريقيا وبين المجتمع العفري وأيضاً المجتمع الجيبوتي" بأثينيته المتعددة المتناغمة ثقافة وديانة"، والتي تربطه باليمن خاصة والجزيرة العربية والأمة العربية وبصفة عامة روابط ثقافية ودينية عميقة متجذرة عبر آلاف السنين "(ص:5). ويمكن إختصار رؤية د.الشامي للنصوص في ثلاثة محاور:
أ- التواصل:" في قصائدها الجميلة نفحات مميزة ورابط يعزز التواصل بين الجزيرة العربية ، والضفة الجنوبية الغربية للبحر الأحمر عن طريق عبور سُحب شعرها لباب المندب.
ب- التنوع وعدم الإستقرار: "من خلال شعرها تمر بنا على جنات افتراضية شتى ولكن لا نعلم "في أي الحدائق تستقر".
ج- الحيوية والطاقة الشعورية: تنهل من نبع والدها، فيمدها بالحيوية وصقل أدوات تجربتها الشعرية: "حيث كان والدها محمد عبدالرحمن العلوي رحمه الله يقرض الشعر".
و للناشر (**)، رؤية نقدية بعنوان:"إلا أنا .. سحر الصورة ، وعروبة القصيدة "(ص:6). وتقوم على أساس تقويم النص من خلال الصورة الشعرية دون التنويعات الموسيقية، حيث يعتمد البعض:" في بناء القصيدة على مدى ما أوتي من قدرة على رسم الصورة الشعرية التي تحمل بصمته الفنية الخاصة". ويرى في الشاعرة قدرة مدهشة:" على رسم صور شعرية تتسم بالكثير جدا من الإقتدار من ناحية والتتابع من ناحية أخرى"." تكاد لا تخرج من حدود صورة شعرية إلا ويسلمك منتهاها إلى مبتدأ صورة شعرية جديدة في إنسيابية مذهلة ".
منذ البداية يجد القارئ حالة جذب بصري بسبب حالة الإستثناء " إلا أنا "، وهو عنوان القصيدة الأولى. ولا أعرف أن كان إختياره عنواناً للديوان فكرة الناشر أم الشاعرة ؟. بمعنى هل الشاعرة منقادة للناشر في إختيار العنوان لإعلاء شأنه وليكون في متناول التلقي كعامل جذب بصري واستقطاب؟ أو هدف الشاعرة إعلاء شأن القصيدة حتى تكون في متناول التلقي والإستجابة من خلال الإنتاج المسبق لوجود عنوان القصيدة عبر العنوان العام للديوان ؟ ومن وجهة أخرى .. ربما يكون هذا السؤال غير مستغرب عند الناشر، حيث أشار في كلمته أن العنوان فكرة الشاعرة: "أن الشاعرة أختارت أن تمنح الديوان اسم إحدى قصائده ، فلنتوقف قليلاً أمام قصيدة الديوان . فمنذ السطر الأول في هذه القصيدة الجميلة (إلا أنا) يحس القارئ بلون خاص من ألوان الصوفية الوطنية إذا جاز التعبير". و يكمل حتى يصف الأمر بقوله:" والمدهش أن العنوان يوحي بلون من النرجسية ، لكن القصيدة توحي بالكثير من من معاني الفناء في عشق المحبوب". فإذا أفترضنا صحة وجهة نظر الناشر، فكيف يمكن فهم تكرار " إلا أنا" مرة على غلاف الديوان والأخرى فوق متنها؟. حيث عملت على جعله أولاً من حيث وجوده بين قصائد الديوان. وجاءت (القصيدة- العنوان) متقدمة على نصوص الديوان جميعها. وبالتالي طرح السؤال: هل هو خضوع الشاعرة لما يعرف بالمهيمنة التعبيرية التي يبنى عليها العنوان ؟، وينقاد إليه الإسم ومحتواه الدلالي ؟ والركون إلى فاعلية تكرار العنوان حتى نكتشف من خلاله النسق ودلالاته. وترك القارئ في حالة السؤال مع تعدد مساحات التفسير والتأويل للنص وفق ذائقة المتلقي.
بحثاً عن الإجابة ضمن النطاق الإقليمي، فقد ذهب خاطري إلى المدينة المفقودة وحالة الإستثناء (إلا) في قصيدة الشاعر اليمني البردوني:"إلا أنا و بلادي"، حيث حدد هويته وهوية المكان مع التميز دون الآخرين بحالة التفرد بإستخدام الأداة (إلا). وبالتالي تأكيد حالة الإنتماء للمكان وقضاياه مع التفرد بالذات(الأنا)، مما يمثل حالة الإستلاب للحدث الدرامي في بناء القصيدة شكلا ومضموناً. وتمثل هذه الحالة نموذجاً لظاهرة الموقف والإلتزام في الشعر الحديث. وأعتقد أن شريفة العلوي تنسج قصائدها على هذا المنوال:" إلا أنا/الكل يشرب كأسك/ مرا .. لذيذاً .. مسكراً/ إلا أنا !). وإحالات مفعمة بالحب مع تنوع المعاني داخلياً مع تشكيل صورة جمالية تنبض بالحياة نفسياً وإجتماعياً ،وفق دفقة شعورية استقرت عشقاً أبدياً حتى تقلق الأنا من أجل الآخرين:" قل يا أنا/ ماذا أقول لكل من أحببتهم/ بين التضاريس الثرية بالمروءة في ترابك/ كلما لا مست جرحاً طاهراً/ يجتاحني عشق المكان/ وعشق من فيه من النبلاء و الأبطال). والإحالة إلى رمزية فيها تعدد مدلولات وطنية ضمن نسيج التعبير عن الهم المكاني وقضاياه. خصوصاً إذا أبرمت الوثيقة للصباح:" لكنني أبرم للصباح وثيقتي/ وأعود أقترف المحبة رغم كل مواجعي../ الكل يغترف إبتسامة نصف فيه/ سوى أنا ".
لا تمنح القارئ مجالاً للسؤال عن المكان ومعالمه؟ لأنها نبتة في التراب وقمر يرتب المد والجزر في سواحله:" إنما أنا في ترابك نبتة/ تمتد للأفق الفسيح بلونك/ أنا في هوئك غنوة/ تشدو بها الأنواء/ لا تكبو لتستبق الصدى/ أنا في سمائك نجمة/ لا محور أرتاد غير مدارك/ أنا في سواحل بحرك المرسوم/ في حق المدى/ قمر يُرتبٌ جزرهُ ومدهُ ../ كجزيرتي(مسحة)* و(دلمي)* بإنتظار دائم/ والكل يمتشق اللبان بثغرك/ ويهز خاصرة الكلام على المحافل باسمك/ إلا أنا". وبالتالي نستدل على المكان المقصود بين دولتين:(مسحة) في جيبوتي، و(دلمى)، في أريتريا. ويمثلان نقطة حضارية للهجرات العربية ولغة القرآن، حيث نجد في قصيدة:" والمدى بيننا .. أخضر.." نموذجاً لأصالة وعمق اللغة التي تمثل نقشاً جميلاً على الكف المغموس في التراب و بالتالي عروبة اللغة التي تكتب بها سحر نبيل:" بل كفي .. وهو مغموسُ/ بشوق ونقش أصيل/عتيق الزخارف والزخرف/ بنجواه يعفي الغبار القديم/ الم تدر أنه صدقا لسحر نبيل ...". والدلالة النفسية يكشف عنها التشبيه الحسي داخل التشكيل التام للصورة مع الإيحاء بالنقوش الأثرية. وأن نجواه يعفي الغبار القديم وأن من البيان لسحر، مما يمنحنا فاعلية التأويل أن تكون لغة القرأن.
تمثل القصيدة الثانية صورة الحالة النفسية للذات و تجلياتها وسيطرة الغائب على في صحوها منامها:(" فتاتك يا فتى طيف/ تناثر من سنا البلور/ كم رقصت على هدبيها أسراب النوارس/ دون أن تدنو../وكم هزمت ليالي السهد في أعتاب جفنيها/ ليأتي الصبح مبتهجاً/ كطفل ضاحك/ يستجوب الأحلام/ و يمسح بالبراءة/ خدها من لمسة الديجور"). والطيف رمزية الأمل ودواء لكل حبيب طال إنتظاره.
يتجلى في الليل بعيداً عن أنظار المتلصصين. لكن ما يلبث في الصباح أن تجد ذلك وهماً لأن الواقع وجع إنساني وأن الذات رمزية تتفجر شموساً وجراحات تختفي داخل داخل الحمامة والفراشات أدرك فجره ديك جريح:(" وجعي هنا/ وهناك يقتسم النهار/ فتات خبز جمعته الريح في ركن قصي/ حتى لو أدرك فجره ديك جريح/ الكل
يورد نبعه/ إلا الذين تجاهلوا نبع الوطن". و من ثمّ غياب الإنسان بحثاُ عن الرزق(يقتسمون فتات الخبز)، ويستدل عليه من النبع بين ظرفية المكان(هنا/هناك). وفي قصيدة أخرى فإن الغربة إجبارية:("رحيل :تحت قصف الريح/ دخان: ستحم بوابل الخطى/ والأزيز بطرفه لا يستري/ إذ يستعير قوامه المتصاعد/ من إجتياح الغربة بين فنائنا ").
سطوة الغائب على الذاكرة بمثابة فتيل الحزن الذي يشعلها ، حيث أن هذه المفردة وردت صريحة في أكثر من قصيدة، وأخرى ندركها من تشكيل الصورة المعبرة عن الحالة النفسية:"ربما كل جروحي/ عطرت زاوية الحُزن/ كسيل الحبق". حيث التوظيف الإيجابي للحزن الذي أصابها بعد رحيل والدها، حيث محبته تمنعها من الإستسلام حتى لا يكون طيفاً و تظل شمعة حياتها متقدة:" لولا محبتك الحفية يا أبي/ لبقيتُ طيفاً يقتفي/ أثر الرياح على العراء/ لتخبو وقدة شمعتي". وفي رؤية أخرى شخصية – سلبية - قاتمة غارقة في الحزن لذات أتعبها غمار البحث في الواقع الجمعي وأبعاده إجتماعياً وتأريخياً وإسقاطه على الصمت – الإحساس الداخلي بالزمن- الذي أصاب الإنسان في حالة الإنتظار:("لا تتدثر .. مازلنا على عتبات الصيف/ والهم الجاثم فوق سفوح شتوية/ يحفر للأحلام قبورا"). والقبر رمز المجد الزائل(الحلم) و حالة اليأس حتى بصل الأمر للخضوع في حالة إنتظار الموت، حيث لا قيمة لحياتهم:" ألمح من تلك النافذة../ قبرا ينقصه .. ثمة هيكل/ وبدا أبعد عما هو أدنى/ للرؤية حتى لا يتحلل". وبالتالي رسم معالم الإغتراب ودلالاته التي تدور حول أزمة الإنسان المعاصر.
يمنحنا الإهداء تفسيراً لظاهرة الحزن، حيث نجد أناشيد و مراثي للوالدين، و غنائية الحب والوفاء لوالدتها مطرزة بورود حمراء قانية دلالة المودة والشوق في قصيدة البحر كثيراً ما يغرق في عينيك:" أمي يا قمرا / بلوره يلتف حنينا./ كاللبلاب على أغصان الروح/ أفتح نافذة الصبح/ أستنشق عطراً/ يربطني فيك/ كحبل السرة/ و أقبل أثار السجدة/ على جبهتك الثرة/ يا مسك الجنة/ أمي يا معجزة / لا يشبهها .. إلا فرحي/ حين ملاقاتك في قلب بلادي/ يحتفل النور على هدبيك". أما ورود الفراق والحداد، ورود الرثاء ، فإننا نجدها في أكثر من قصيدة رثائية للوالد:"أبي الغالي/ هنا في المقعد الخالي/ كتاب الماضي يخبرني/ بأنك أنت في قلبي/ تحاورني .. تشاورني/ تراقبني .. تعمرني بأفراح/ مداها كل أعماري".
القصيدة في مجملها دلالة على الفقد. و الحمامة رمزية الوسيط الغائب ناقل الخبر:" أخبريني يا حمامة/ كيف أوقفت دمائي/ وصنعت من شراييني/خيوط العنكبوت/ عشش الوهنُ زماناً في وريدي/حين كفنت أناشيدي/ وأحرقت بريدي"). و من ثمّ مرحلة النحيب المبللة بدموع العيون، المفتحة بزفرات القلوب، حيث الحزن صورة لشاعرية النفس التي تتأثر بمحيطها الإجتماعي، وأداة تنشيط الطاقة الشعورية للتحول من السلبية إلى الإيجابية. ويترتب عليه توظيف الحزن لتصوير مشاعرها في صورة إبداعية للحالات التي تنتابها من الفقد وضغوط إجتماعية، وفي صورتها الكبرى المتغيرات الجيوسياسية وأثرها على الواقع بكافة أطيافه مما يشكل قضايا الهم الإنساني. ومرجع ذلك إلى التأسيس الأول في شخصية الشاعرة - النزعة الروحية والقييم الذاتية - التي تؤدي إلى إستحضار الذاكرة بما فيها من مشاعر وأحاسيس، مما يمنحها قابلية التضحية لدرجة الغرق:"أنت بحر/ ربما كل دموعي/ وأنا ثمة لوح/ يرسو نحو الغرق". هذه التضحية لا تصل لمرحلة الانتحار لإيمانها بالله، حيث أن حياتنا الدنيا ما هي إلا محطة يتبعها حياة أخرى. لذلك مهما أبتلى الإنسان بالرحيل فلا بد من العودة، حيث مكتوب على الإنسان العودة إلى التراب.
تستند الشاعرة على الوجدان كلما تكالبت عليها الخطوب، ولذلك ترضخ لمن سن شريعة العودة:" هذه حكايتنا مع السفر/ ما بال هذا الدرب يقتنص القدم/ ويجر أذيال الشهاب بخافقي/ حتى أعود الى الذي/ سنَّ الرحيل شريعة/ لمراسم العودة". حيث أن الإيمان بالعودة يمنح الشاعرة السكينة حتى تعود إلى سكونها النفسي ومحادثتها لذاتها وتفرغ شحنات الصدمة إبداعاً و رسماً على الورق مما يجعلها تتجاوز أزماتها النفسية.
بما أن تجارب الشاعرة من واقع قرائي ولاسيما الحداثة، فإن العناصر الفنية، الرمز، الحزن، الغموض، أدوات تُخومها بين العبارة:"حُروفي قصيدةُ فوق القراءة/ وتبقى تُخومها بين العبارة". حيث تظهر أغلبية القصائد تشكيلاً فنياً للصورة، يعتمد على بناء طولي للقصيدة مع تحرك جزئياتها إلى الأمام بشكل ممتد من أول الصورة إلى نهايتها التي تشكل حالة السكون. وتعتمد على حركة العامل الزمني كعنصر فني لمنح الصورة حيويتها وطاقتها الشعرية. مثال ذلك قصيدتا "أسير على موجه المائع "،" والمدى بيننا أخضر أزرق"، نموذجاً للتشكيل الفني للصورة وفق البناء الطولي للقصيدة. و الصورة المزدوجة بين القرصنة والأنسنة في قصيدة سألوني:"سألوني/ما الفرق/بين القرصنةٍ والأنسنةٍ/جاوبتهم/الفرق ثمة لحظة/تتأهب/تتشظى /بين مدار عقربنا
وعقربهم ". حيث صورة الصومال والقرصنة أنذاك مع ضيق مساحة الوطن:"و الفرقُ أولها يعلمُ/ كيف تنمو على كفوف الخيبة/ أعشابُ ألوان المحن/ وكيف تُهيا الحلوى/ لتبدو كما الصنم/ إذ كلما كبرت مساحتها/ يضيق بنا الوطن". و من ثمّ التشكيل الفني من أسباب دهشة الناشر، الذي لم يجد تفسيراً إلا الإقرار بمفعول سحر الصورة التي أعتبرها جناحاَ يتيح للشاعرة التحليق في سماء الشعر. والسؤال : أين عروبة القصيدة ؟.
إجابة السؤال نمطية جداً عند الناشر، ويمكن من خلالها التعرف على عروبة القصيدة: ( "ربما تزداد دهشتنا من قدرة الشاعرة على صوغ هذه الصور الشعرية بحساسية لغوية مرهفة حين نستحضر كون الشاعرة - رغم عروبتها البينة -، تنتمي في الأساس إلى القومية العفرية التي تمتلك لغتها الخاصة ونسقها اللغوي والإبداعي الخاص. صحيح أنها في كل الأحوال واحدة من أبناء قطر عربي شقيق، هو جيبوتي" ). إذن عروبة القصيدة من عروبة الشاعرة نسباً وهويتها الجيبوتية دولة جيبوتي بحكم إنتماؤها لقومية العفر. لكن جماليات الصورة تخالف هذا القول لوجود أكثر من ملمح لعروبة القصيدة. حيث يمكن استلهام عروبة القصيدة من خلال القضايا التي تناولتها والبحث عن واقعها المجتمعي المشمول بكافة عناصر الإغتراب. وأثر ذلك على تجربتها أن تكون من الوجد نسرا أو في العتاب حمامة، أو السندباد الباحث عن شاطئ الأمان بين الفريقين. كما أن استلهام قصة سيدنا يعقوب وإبنه يوسف عليهما السلام وتوظيف ذلك من دلائل عروبة القصيدة:" أحبك حتى غدا الوجد نسرا/ يحلق في قلبي طول المدى/ لم يطو أجنحة النبض حين غواه النوى/ وكم ظلل المسك من فوحه هامتينا/ والمدى بيننا/ أخضر/ أزرق ../ الى أن يُردُّ البصر). صورة تفاؤلية من خلال لونين:الأخضر والأزرق. وهما من رموز المكان الذي تنتمي إليه، حيث البحر بزرقته أو السماء في حالة الصفاء مما يتيح للنسر بالتحليق. والأخضر لون بيئة عفرية رعوية أدركتها الشاعرة من خلال مراحل طفولتها في منطقة (بدا) مثلما أدركت زرقة البحر في جزيرة (دلمي).
الحب حالة رومانسية، لكن حالة الفقد أوجدت مساحة حزن وافتراق بينها وبين المكان الذي يحمل سمات الفاصل بين مكانين (الضفتين): والمدى بيننا/ أخضر/ أزرق. مما يفقدها الثبات وعدم صفاء تجربتها الرومانسية. ويشعل لديها فتيل البحث عن واقع تتمسك به، حيث تتناول قضايا أكبر بكثير من دائرة البعد الجيوسياسي إلى واقع الأرض والهم الإجتماعي المشمول بكافة عناصر الإغتراب.الأمر الذي أدى إلى خروجها من دائرة الذات وتوهج الرومانسية إلى حالة واقعية بحثاً عن المكان في صورة الغائب.
نستدل من خلال الإيحاء بقصة سيدنا يعقوب وإبنه يوسف عليهما السلام (الى أن يُردُّ البصر)، حيث المأمول أن يعود الغائب أو خبر عنه مثل عودة البشير بقميص يوسف عليه السلام. والقميص المقصود مضمخ برائحة المسك:" كم ظلل المسك من فوحه هامتينا ". ويذهب الظن إلى قصة فراق بين شخصين لكن قولها فيما بعد عن لغة القرأن:" بل كفي .. وهو مغموس/ بشوق ونقش أصيل/عتيق الزخارف والزخرف/ بنجواه يعفي الغبار القديم/ الم تدر أنه صدقا لسحر نبيل ...".
يمنحنا هذا الأمر فاعلية التأويل أن الغائب رمز تأريخي، وتتضح معالمه في مقاطع رمزية الأم ظاهرياً – الأرض باطناً - مع توظيف نص قرآني:" حمله وفصاله ثلاثون شهراً ". حيث تقول " وحملتها .. ثلاثون صمتا وعشرين صبرا". وهي مقاربة للتاريخ الإريتري المعاصر:(ثلاثون عاماً من النضال 1961-1991م ، وعشرون عاماً من الإستقلال 1991م – 2011م ). ثلاث عقود من النضال (ثلاثون صمتاً)، ويتبعها فترة الإستقلال والدولة الإريترية التي مضى عليها عشرون عاماً – حين صدور الديوان – والشعب صابر ينتظر الفرج(عشرين صبراً). هنا تضعنا الشاعرة أمام صورة الأم/ الوطن، حيث تضحية شـعب من أجل الوطن معادلاً لتضحية الأم منذ الحمل و معانأة الولادة والإرضاع ، والأمومة التي تنقطع نع وليدها. فإذا كان المقصود بالغائب هو الوطن، الذي عاد مع عودة البشير، فما المقصود بالقميص؟ حتى يرد البصر، ويكتمل الحلم. فـإذا كان القميص أمراً ملموساً فلابد أن يكون المعادل له في الوطن ملموساً أقرب ما يكون إلى قطعة قماش. وهذا يعيدنا إلى اللونين الأخضر والأزرق ، الذي نجد ما يعادله في البيرق – القميص – والذي يمثل رمزية العلم الإريتري الذي رفرف عالياً في سماء الأمم المتحدة منذ منتصف القرن الماضي. وكان راية الشهيد – المغفور له بإذن الله - حامد عواتي، رائد الثورة الإريترية التي أشرقت في سماء أريتريا في الفاتح من سبتمبر 1961م، وكأنما تضعنا الشاعرة أمام إشكالية الهوية التي تشكلت من لونين أخضر/ أزرق.
إذا تابعنا مسار القصيدة فإن تضحية الأم وصبرها لا يتوقفان عند عودة البشير دون القيمص، حيث السؤال عن الوفاء لمن؟ لمن سبق من الأجيال أم لعهد رضيع يتهادى على المعصم؟. وفي كلتا الحالتين – مرحلة التحرير
والاستقلال - فإنهما رقبة بين طوق عنيد :" وإن أبصرت في يديك معاني الحياة/ مازلت حاملة للوفاء/ حفرت على صدري شامة حرفٍ/ تعيدك بعد ضياع الضياع/ أوفي لعهد تكحل من مقلتيّ/ أم أوفي لعهد ينسق عمره في معصميّ/ كلانا هنا رقبة بين طوق عتيد./ وان كان هذا الوفاء/ طريق طويل.. طويل تدوسه كل النعال./ ليطلق ذاك الفؤاد النحيل/ بصوت رخيم نشيد الأنين). وهنا يشعر القارئ بمسوى عالِ من الصدق الفني لدى الشاعرة في حالة تمثل شخصية الأم ، وكذلك الحلم التأريخي والوطن في شخصية الأم التي تنتظر حتى يرد لها البصر بعودة البشير بالقميص المضمخ برائحة المسك. صورتان إيجابية تفاؤلية في شطرها الأول، سلبية بصوت رخيم نشيد الأنين، حيث تقف التجربة الشعرية عند هذا الحد. وبالتالي أفقدها الموقف/الرؤية مع وضعها في دائرة الضعف والإسترحام وإنعدام أي بصيص للأمل، الذي يتجسد في الدفاع عن النفس والأرض. والسؤال : لماذا هذه الخاتمة بعد السرد الجميل لمقومات الإنسان من الأرض ولغة وتأريخ وعودة البشير؟ ربما تجسيم القصة بكل أبعادها النفسية والإجتماعية سيكون معادلاً جيداً لتحقيق الإيجابية للطاقة الشعورية، بدلاً من هيمنة السلبية التي أفقدت القصيدة حيويتها في الخاتمة.
يمكن إستلهام عروبة القصيدة من خلال تجربة الشاعرة وتناولها فيها قضايا إنسانية في صورتها الذاتية أو الفعل الجمعي، حيث التحول من الذات الحالمة إلى الخطاب العربي العام. والتحليق عبر الأجواء العربية بدءً من جنوب البحر الأحمر في ثلاث قصائد:سألوني، إلا أنا، المدى بيننا أخضر أزرق". وصولاً إلى قاهرة المعز ، وقصيدة "عقد على جيد الزمان". والمرور على القدس:" آه يا القدس/ يا وجهتنا الأولى/ ويا قبلتنا الأولى/ في مرايا الروح أنتٍ/ وشم يولد فينا / ليعرينا فلولا/ وغفونا/ فغفا الكون خمولا"." إيه يا القدسُ/ لقد قدسك المولى/ ومازلت على الأرض سماء".
ولا تنسى إهداء قلبها وقصيدة"هاك قلبي"رسالة إلى السجين الفلسطيني. ثم تمضي الى بلاد الرافدين لتسطر قصيدة "قل للعراق والعراق"، حيث تتوقف قليلاً لتصدر قصيدة " صمت البيان " بعد أن أتعبها التحليق وقطف ورود قاتمة. ورود الفراق والحداد، ورود الرثاء في المدائن العربية.
وهذا لا يمنعها من السكون وقصيدة قلب من ذهـب حتى تطير دون الأجنحة:" أنا طائر يمتد فيه الأفق/ خلف درى الخيال". فإن زاد عليها الوجع، الذي يمنعها من الطيران وخاتمة الديوان بقصيدة " سأرفع الآن جرحاً".
هذا الجرح لا يقل ألماً من الصمت الذي يصنع الأمنيات من أعاصير اللهب:" إن للصمت أعاصير لهيب/ يلسع الجمر/ ولا يطفئه/ غير سكب المقلِ / ليتني كنت كتاباً / يقرأ الصبح على كفه طير/ يتدلى من غصون الأثل/ لا يُعاتب يلبلاً / ينقل أصداء الترانيم/ على كتف النسيم/ يسكب الومضة في مهجة ليل/ خيك من جفنه سحر الزجل"). هكذا ظلت تجمع الصمت يوماً بعد يوم من خلال ارتحالها بين الذات والفعل الجمعي ، وتنثره في حديقتها وروداً في حديقتها التي أضحت أشبه ما تكون بحديقة وردة اليازجي. والسؤال لماذا تذبل بعض الورود – المقاطع- أحياناً ؟ لوجود فراغ؟ أم حذف و خلل في الصورة نتيجة دفقة الحالة الشعورية ؟ . فإذا كانت تطير عبر المدى، وتعود بدرر الكلام والمعاني، فإنه من الواجب أن رحلتها مترابطة الأجزاء مما يمنح القصيدة كامل وحدتها العضوية، وبالتالي إكتمال الصورة دون القطع في بعض القصائد. ولا أعتقد أن الأمر عائدُ إلى الألفاظ لقدرتها على التحكم في المفردة. كما أن التحليق بجناح واحد – الصورة الشعرية - أمر مقبول من الشاعرة في بداياتها . الأمر جعل الناشر من أمنياته أن تنال الموسيقى الشعرية أولوية عند الشاعرة:" أن تولي الإيقاع الموسيقى ما تولي التصوير الشعري من عناية"(المقدمة،ص:5).
أمنية من الصعب أن تتحقق، حيث اعتراها المرض بعد آخر مشاركتين، الأولى في مدينة جدة - مارس 2012م - ، الثانية في (أبـسالا) السويدية، مايو 2012م. و كانت تقاوم المرض بكتابة فصولاً من روايتها "النظرة التي لم تكن لي "- لم تكتمل -، و انشغالها بطباعة منتوجها الإبداعي الثالث من النثريات و النقد اللامباشر: إمرأة لا تقف في الطابور 2012م.
شريفة العلوي علامة فارقة في سماء الشعر العربي مع تفردها (إلا أنا) سواءً كانت لذاتها أو لأمتها. حيث كانت نبتة في ريف (بدا) وأزهرت شعراً - لا تذبل - بكل ما تملك من مقومات تأريخية وثقافية مشتركة من أجل أن تجد صورة مدينتها المفقودة/الهوية في المدائن العربية التي غادرتها في عام 2013م. . حيث طواها الثرى في مقبرة شاهر بحي النزلة جنوب مدينة جدة ، و لسان حالها عن الوجع و مغادرة مملكتها:" وغادرت مدائن مملكتي/ جـف الدمع/ ثم تساءلت القطنة/ هل للموت دماء ؟/ يا وجعي المشتاق لأوجاعي/ لا أحد يبلغ حد الموت ../ بعد .. الموت." (زخرف البلح:63).
-------------
* دكتور هاشم بن جمال الدين بن إبراهيم بن خليل الشامي (1920- 2022م)، من أسرة عريقة في العلم والقضاء في أقليم دنكاليا في أريتريا. تقلد جده الشيخ إبراهيم القضاء ومن بعده إبنه جمال الدين. وقد قام بطبع كتاب والده الشيخ جمال الدين "المتكل بأخبار الدناكل" مع زيادات وتنقيحات بعنوان"المنهل في تاريخ وأخبار العفر(الدناكل)"، في عام 1997م.
- ** الناشر: السيد محمد أحمد حسن، شاعر، إعلامي، مدير البرامج الثقافية بإذاعة البرنامج العام، مالك دار طيوف للطباعة و النشر ، القاهرة.
Comments