top of page

سجينة الجغرافيا: قراءة تحليلية في أطروحة آبي أحمد وتحولاتها الجيوسياسية

  • tvawna1
  • Jun 11
  • 4 min read

Updated: Jun 16

بقلم الاستاذ/ إبراهيم قاروا

10/06/2025

في خطابه المتفلز عاد رئيس الوزراء الاثيوبي آبي أحمد الى توظيف فكرة "سجينة الجغرافيا" بوصفها مدخلاً تفسيرياً لأزمات بلاده البنيوية ومنصة لإعادة بناء سردية استراتيجية تسعى الى تطبيع تحرك اثيوبيا باتجاه البحر.

لا يقرأ هذا التوصيف بوصفه تشخيصاً بريئا أو محايداً بل كترميز أيدلوجي يحاول من خلاله آبي أحمد تأطير الوضع الجغرافي لبلاده باعتباره قيداً وجودياً يتطلب بالضرورة إجراءات جريئة حتى لو اصطدمت بالقانون الدولي أو اسقطت مفاهيم السيادة والتوازنات الإقليمية من الحساب.

السردية التي بنى عليها آبي أحمد تبدو متماسكة في ظاهرها لكنها في جوهرها تعبير عن أزمة داخلية عميقة يحاول القفز عليها لا معالجتها. فالرجل الذي فشل في احتواء التمردات المتعددة داخل بلاده وعجز عن بناء دولة مركزية مستقرة يحاول الآن الهروب الى الأمام بصناعة "قضية قومية" كبرى توحد الداخل المنقسم حول خطر خارجي متخيل. في هذا السياق تبدو قضية الوصول الى البحر وكأنها وسيلة لإعادة بناء شرعية وطنية مفقودة أكثر من كونها مطلباً اقتصاديا.

وهنا تبرز المعضلة القانونية والسياسية إذ أن الحق في النفاذ الى البحر لا يُنكر للدول غير الساحلية وهو مكفول في القانون الدولي ضمن ترتيبات تضمن حرية المرور عبر ممرات محددة في إطار الاحترام المتبادل للسيادة. إلا أن ما تطرحه أديس أبابا ليس مجرد مطالبة بحق المرور بل توظيف لهذا الحق لخلق أرضية جديدة لتدخل جيوسياسي يهدف الى تثبيت حضور دائم وفرض ترتيبات أمنية واقتصادية تعيد تشكيل موازين القوى في منطقة البحر الأحمر. وهذا بطبيعته لا يمكن فصله عن منطق الهيمنة الإقليمية ويشكل خروجاً عن الأعراف الناظمة للعلاقات بين الدول.

فإثيوبيا ليست الدولة الوحيدة في افريقيا المحرومة من منفذ بحري لكنها تكاد تكون الوحيدة التي تتبنى خطاباً عدوانياً يوحي بأن الحق في البحر لا

2 / 4

يمكن إنتزاعه إلا بالقوة أو فرض الوقائع. والمفارقة أن هذه الأطروحة تأتي في وقت تعاني فيه الدولة الإثيوبية من حالة شبه تفكك حيث تتسارع التناقضات الإثنية والحدودية وتنعدم القدرة على انتاج مشروع وطني جامع مما يطرح السؤال الجوهري: كيف يمكن لدولة مأزومة داخلياً أن تؤسس لمشروع تمددٍ خارجيٍ دون أن تكون هي ذاتها عبئاً على استقرار المنطقة؟

استدعاء القانون الدولي بمعزل عن سياقه واستخدام مفاهيم كالحق في المرور لتبرير سياسات توسعية يضع اثيوبيا على مسار تصادمي مع منظومة القانون الدولي نفسه. فالمسألة ليست في امتلاك الحق من عدمه بل توظيف هذا الحق كأداة لإعادة إنتاج المركزية الإثيوبية التاريخية التي طالما اصطدمت مع محيطها. وهنا يصبح من المشروع التساؤل: هل تحاول اثيوبيا الخروج من مركزيتها الجغرافية عبر التحول إلى دولة مارقة؟ سؤال يفرضه ليس فقط الخطاب بل منطق السياسات والممارسات الجارية على الأرض

في هذا السياق لا يمكن تجاهل النقطة التي أثارها آبي أحمد في حديثه حين استعاد تعبير الرئيس الاثيوبي الراحل "ملس زيناوي الذي قال " نعلم جيداً الى أين قادنا المنطق الذي يقول: نريد إرتريا لا شعبها". هذا الجملة التي تعكس إدراكاً متأخراً لخطأ المركزية الإثيوبية الاستعلائية لم تمنع آبي أحمد من إعادة إنتاج المنطق نفسه وإن كان بأدوات جديدة. فهو لم يتعلم من تجربة الحرب الطويلة مع الشعب الإرتري الذي قاوم أباطرة المركز وانتزع حقه في تقرير المصير عنوة فكيف يمكن لسلطة مفككة اليوم أن تعيد فرض الوصاية بمنطق القوة بالضغط؟

هذا العمى الاستراتيجي وعدم القدرة على التعلم من التاريخ هو أحد أهم مظاهر أزمة النخبة الإثيوبية التي تتهرب من مواجهة واقعها وتدمن صناعة المظلومية الجيوسياسية لتبرير إخفاقها الداخلي.

في السياق ذاته تبدي إرتريا حساسية استراتيجية عالية تجاه الخطاب الإثيوبي الأخير لا من زاوية القرب الجغرافي فقط بل انطلاقاً من قراءة أعمق لطبيعة المشروع الإثيوبي الجديد الذي يُفهم في أسمرا كتحرك لإعادة إنتاج المركزية الإمبراطورية بثوب تنموي – أمني يراد له أن يعيد هندسة التوازنات

3 / 4

في البحر الأحمر. القلق الإرتري هنا لا ينبع فقط من احتمالية التهديد المباشر فحسب بل من إدراك أي تحرك إثيوبي مستقل أو مدعوم خارجياً في البحر الأحمر سيؤسس لنظام إقليمي جديد يُغيّب الدور الإرتري ويضع أسمرا في موقع التابع أو المحايد في معادلة بالغة الحساسية.

لكن هذا القلق لا يُفهم أيضاً بمعزل عن الإخفاقات المتراكمة للنظام الإرتري الذي عجز عن تحويل موقعه الجغرافي الاستراتيجي الى قوة تفاوضية إقليمية بسبب سياسات العزلة والعداء المزمن لأي اندماج إقليمي والاحتكام الى عقلية أمنية ضيقة عطلت كل فرص الانفتاح.

في الوقت الذي كانت فيه اثيوبيا تسوّق سرديتها في المحافل الدولية كانت إرتريا تعزل موانئها عن معادلات التوازن الإقليمي وتحيّد نفسها عن أي دور فاعل في إدارة هذا الفضاء البحر الحيوي. الإخفاق هنا ليس فقط في الرد على التحدي الإثيوبي بل في بناء رؤية استراتيجية تؤمن أن السيادة لا تعني الانغلاق وأن تحييد الموانئ هو في حد ذاته تفريط في الجغرافيا.

أما على المستوى الإقليمي فيتقاطع الموقفان السوداني والمصري عند نقطة جوهرية: أن أي إعادة رسم لمسارات الجغرافيا السياسية في البحر الأحمر لا يمكن أن تمر دون أن تمس مباشرة الأمن القومي لكلا البلدين.

السودان رغم وضعه الداخلي المعقد يدرك أن تمدد اثيوبيا نحو البحر لا سيما عبر بوابة إقليمية مضطربة سيعني على المدى البعيد تموضعاً جديداً يهدد أمنه الحدودي ويزيد من تعقيد ملفاته مع أديس ابابا. في حين ترى القاهرة أن إعادة تعريف للوضع الجيوسياسي لإثيوبيا يجب أن يخضع لمنظومة التوازن التاريخي لا لمعادلات القوة الطارئة خاصة أن القاهرة تتعامل مع البحر الأحمر كمجال أمن قومي لا يمكن السماح بتحويله الى منصة نفوذ مضاد.

وفي السياق الدولي فإن التفاعل مع الخطاب الإثيوبي الأخير يعكس مفارقة مقلقة. فبينما تحاول اديس ابابا تمرير أطروحتها تحت غطاء قانوني يبدو ظاهرياً مقبولاً فإن بعض القوى الدولية أبدت تفهماً مبدئياً لهذا الطرح إما لدوافع اقتصادية أو رغبة في موازنة النفوذ الصيني والخليجي في البحر

4 / 4

الأحمر. التصريحات الفرنسية والتركية المتفهمة نسبياً لاحتياجات اثيوبيا تكتيكي أكثر من كونها قبولاً استراتيجياً. لكنها في ذا ت الوقت تمنح اثيوبيا مساحة إضافية لتوسيع خطابها وفرض أمر واقع وهو ما يضع النظام الدولي أمام اختبار حقيقي: هل يمكن القبول بإعادة تعريف القانون الدولي على يد دول مأزومة؟ وهل يسمح لمنطق القوة أن يعيد تشكيل الجغرافيا؟

ختاماً فإن الأطروحة الإثيوبية الراهنة لا تنبع من رؤية استراتيجية متكاملة بل من مأزق داخلي يلبس لبوس الجغرافيا. والمفارقة أن الخطاب الذي يفترض أنه يُعبر عن تطلع مشروع يتورط في الوقت ذاته بإعادة انتاج أعتى أشكال المركزية التاريخية التي سبق أن فشلت في احتواء الواقع. ما يطرحه آبي أحمد اليوم هو تحرك غير محسوب نحو فضاء إقليمي بالغ الحساسية دون امتلاك أدوات داخلية أو إقليمية تؤهله لذلك.

ولذا فإن ما تُقبل عليه اثيوبيا ليس مجرد إعادة تموضع بل تهور استراتيجي قد يضعها في خانة الدول المارقة ليس لان نواياها بالضرورة عدوانية بل لأن مساراتها تنطلق من إنكار للتوازنات واستعلاء على المحيط وإصرار على تجاوز القانون وهذا تحديداً ما يجعل مشروع آبي أحمد خطراً لا على جيران اثيوبيا فقط بل على بنية النظام الإقليمي برمته.

 
 
 

Comments


bottom of page