top of page
tvawna1

رحل عمر عليم الاريتري قبل ان يفرغ حبر دواته

Updated: Oct 2, 2023

1 October, 2023 فاصلة: "في ذاكرة الصحافة السودانية و العربية أسماء كبيرة تركت بصماتها مهنياً و نقابياً طيلة عقود متواصلة. و من هؤلاء و هؤلاء أسماء في صفحات النسيان لأنهم عملوا بصمت لنصرة القضايا الإنسانية في المقام الأول، ثم عدم الحديث عن منجزاتهم تاركين أعمالهم تتحدث عنهم. و حسبنا أن مساعد الأمين العام لاتحاد الصحفيين العرب سابقاً ، الأديب الصحافي عمر بن جعفر السّوْري، السوداني الأب، الاريتري الأم، واحداً من هؤلاء الذين يوسمون بكلمتين "الجندي المجهول".


(1)

رحل بهدوء على عادته عكس قلمه السيال ، في يوم الأحد السابع عشر من شهر سبتمبر 2023م قبل أن يفرغ المحبرة. و هو المولود في الضاحية الغربية في مدينة مصوّع الميناء الرئيس لدولة اريتريا في مطلع الأربعينيات من القرن الماضي. و فيها درس المرحلة الأولية قبل انتقال الأسرة أسمرة ، و منها الى السودان بسبب مضايقة الانجليز لوالده و نشاطه الصحفي بعد اصدار مجلة أسمرا الثقافية الأسبوعية في عام 1947م التي أشار اليها بقوله:" :" مرحلة تقرير المصير في اربعينيات القرن الماضي لم يتوان بعض السودانيين من الانغماس في تلك المعركة بكل جوانبها السياسية و الثقافية و الاجتماعية، فها هو جعفر السَّوْري و محمود الربعة يؤسسان جريدة "اسمرا الاسبوعية" التي سرعان ما أغضبت الادارة العسكرية البريطانية ، فأغلقت الصحيفة و أبعدت جعفر الى السودان ليلتحق الى حين بجوار أبيه، الشيخ على بيتاي، في مشروعه التنويري الاصلاحي المشع من همشكوريب "(عن قليل مما أنساب بين السودان و اريتريا، سودانايل 2013.01.02م).

كانت كانت الحدود مفتوحة بين اريتريا و السودان (1941 – 1951م،)، و هي الفترة التي عاشها أبناء المنطقة تحت الاحتلال الانجليزي، و لاحقاً تم ربط اريتريا بالاتحاد الفدرالي مع أثيوبيا 1952م. و مُنح السودان الحكم الذاتي 1953م حتى يناير 1956م اعلان الاستقلال من الاحتلال الإنجليزي. عمل والده - بعد عودته للسودان -، رئيساً لتحرير صحيفة "الجزيرة" لسان حال مشروع الجزيرة الزراعي. حيث كان الانجليز يعملون على ربط المشروع بالمشروع الزراعي في مدينة علي قدر الاريترية. فكلفت عدد من االمهندسين لإدارة المشروع، منهم محمود محمد طه، الذي أشرف على إدارة فرع على قدر. ثم أسس الحزب الجمهوري في عام 1945م، و اصدر صحيفة الجمهورية التي رأس تحريرها جعفر السَّوْري، الذي تلقد منصب القائم بأعمال السكرتارية في الحزب .

أستقرت الأسرة في حي العمد بمدينة أم درمان ، و فيها اكمل تعليمه. و مارس العمل الصحافي في السودان الجديد أول بلاطة في السلطة الرابعة، في عهد رئيس التحرير فضل بشير. و هي الصحيفة التي شهدت مقالات والده في عموده اليومي تحت عنوان (نظرة) في خمسينيات القرن الماضي. أكتسب الخبرة، حيث عمل مع أسماء أعمدة راتبة أطلق عليهم الفرسان الأربعة:"يحيى العوض "كلمة التحرير"، محمود محمد مدني "مشوار"، صديق محيسي"نحن أيضا لنا كلمة"، و مهمته تزويد الصحيفة بأخبار الجمعية(البرلمان)، و أحياناً يسطو على عمود المحيسي على حد قوله:"الذي كنت أستولي عليه أحيانا ". تنقل في عدد وسائل الاعلام مثل وكالة أنباء السودان ، حيث عمل مع ثلة من الصحافيين أمثال التني، والسفير العمرابي ، خليفة خوجلي، في عهد المخضرم الصحافي سعد أحمد الشيخ. و مراسلا في القسم الاقتصادي بمكتب وكالة الانباء الإقليمية (رويتر)، و صولاً لصحيفة“سودان استاندرد”، في عهد رئيس التحرير الصحافي المخضرم محمد عمر الخضر.


(2)

اشرقت شمس الديمقراطية الثانية في السودان بعد ثورة أكتوبر 1964م ، فكأنت الصحافة منبراً للحريات التي واكبت القضية الاريترية ضمن النشاط المكثف للإريتريين في الخرطوم بقيادة عثمان صالح سبّي ، و المناضل

سيد احمد محمد هاشم السيدّراتي (1932-2015م) عضو المجلس الاعلى ، الذي تزينه شلوخ ثلاث على كل خد من خديه - كما يصفه السَّوْري. و المخضرم المناضل السفير محمد نور أحمد - امد الله في عمره بالعافية -، المقيم حاليا في ملبورن باستراليا. فكأن السَّوْري مرافقاً للزعيم سبًي الى دور الصحافة و عقد اللقاءات معهم للتعريف بالقضية الاريترية. و المشاركة في تنظيم الحملة الإعلامية تحت شعار: مع الشعب الاريتري، مع كفاح الشعب الاريتري، لماذا حمل الشعب الاريتري السلاح. و تناوبت الصحافة السودانية النشر خلال الفترة من 15 نوفمبر حتى 14 ديسمبر 1964م. و من الصحف التي ساهمت في هذه الحملة أنذاك: أبناء السودان، الايام، النيل، الميدان، الرأي العام، السودان الجديد، المنار، الزمان، الجماهير. و كان للحملة الإعلامية نتائج إيجابية ساهمت في تكوين رأي عام في السودان مؤيد لاريتريا. و ترتب عليها نشوء الجبهة القومية السودانية للدفاع عن اريتريا بعد مسيرة شعبية شهدتها الخرطوم في 1964.12.03م. ظل يعمل متعاوناً في مكتب الخرطوم، و متابعاً للعديد من القضايا مثل تدفق اللاجئين في أواخر الستينيات، الظاهرة التي كتب عنها في عفو الخاطر-، عن الدماء و الدموع و أشلاء الحروب: " رأيت ويلات الحروب ودموع الضحايا، بل ودماء وجثث القتلى في الازقة والشوارع والميادين والخلاء والفلاة منذ أواسط الستينيات عندما زحف آلاف الارتريين من المناطق الغربية المحاذية للحدود السودانية الى ريف مدينة كسلا طلباً للآمن والأمان ". كما شهد أزمة الجنوب و الحرب التي دفع ثمنها الأبرياء :" تدفق آلاف من أبناء جنوب السودان الى الشمال والى دول الجوار هرباً من اتون حرب يغطي ضرامها ودخانها صمت مطبق لم يجد حينها صحافة حرة وضمير يقظ ووسائل اتصال جماعي تكشف بشاعتها وهولها وتسلط الضوء على ضحاياها الأبرياء الذين حصدتهم آلة الحرب الجهنمية بعد أن عجزت عن القضاء على "المتمردين" جيوش بائسة لا تستقوي الا على المدنيين دون خشية أو وجل، ولم تنتصر يوماً من الايام في نصف معركة على الأعداء الحقيقيين ولم تذد عن حياض الوطن أو تحمِ ثغراً من الثغور أو حداً من الحدود ".



" اذكر مؤتمرا صحافيا عقده رئيس الوزراء حينذاك، السيد الصادق المهدي، ووزير الداخلية، الأمير عبد الله عبد الرحمن نقدالله، وهو – يرحمه الله -رجل حليم، سمح الأخلاق. كنت من بين حضور ذلك المؤتمر الذي انعقد صباحا في دائرة المهدي بامدرمان وليس في مقر رئاسة الوزراء أو وزارة الداخلية، مما حول انفعالي إلى غضب، إذ خيل إلى إن هذا التدبير ما هو إلا استهانة بأمر جلل حل بالسودان وجيرته، فقسوت في أسئلتي التي وجهتها إلى رئيس الوزراء ووزير الداخلية الذي عاد لتوه من تفقد أحوال اللاجئين في مناطق ود شريفي واللفة وتلطاشر ومدينة كسلا. تلقى الأمير أسئلتي، وفي بعض الأحيان ردودي عليه، باسما على عكس رئيسه الشاب. كنت يافعا ومندفعا وصحافيا في أول الطريق. وقد تلقيت ممن هو أكبر عمراً مني وأخبر مني بُعيد المؤتمر النصح والإرشاد في كبح جماح عواطفي والبعد عن الشطط ". و ترتب على هذه التجربة أن يكون مساهماً في تأسيس رابطة اللاجئين الاريتريين في ابريل 1971م.

شارك في المؤتمر الوطني الأول المنعقد في "درور نقيب" بجبال (آر) و استضاف الوفود مننهم أول رئيس للحكومة الاريترية في عهدها الفيدرالي(1952-1956م):" زار تلا بايرو العاصمة السودانية في شتاء العام 1971 قادماً من العاصمة السويدية استوكهولم التي لجأ اليها بعد مغادرته أثيوبيا، و قد كان سفيراً للإمبراطور فيها. كان في طريقه الى إريتريا لحضور المؤتمر الوطني الاول الذي انعقد في نهاية شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من نفس العام. و قد تكرم بقبول دعوتي للإقامة في منزلنا بحي العمدة الامدرماني؛ إذ من بين اجراءات الامن و التأمين لوفود ذلك المؤتمر هو تحاشي الاقامة في النُزل و الفنادق".


(3)

شدّ الرحال الى سوريا ، حيث كُلف بالعمل في الإعلام الخارجي بدمشق التي وصلها اليها بإسمه الحركي عمر عليم الإريتري. و اصدر نشرة دورية، أقترح اسمها "المؤتمر". و فيها وظف المهارة التي أكتسبها في و كالة أنباء السودان و رويتر . و استطاع من خلالها أتكوين علاقات واسعة على المستويات كافة من كبار المسؤولين الى المثقفين بالوان الطيف في بلاد الشام. و تحولت النشرة الى إخبارية - أخبار اريتريا-، نواة تأسيس وكالة الأنباء الاريترية (آر)، و إدارة رئاستها شخصياً. كان مقر الوكالة في مبنى و كالة الأنباء السورية(سانا) في عهد رئاسة مروان الحموي، و من بعده رئاسة المخضرم الشاعر د. صابر فلحوط ، مؤسس و رئيس المركز العربي للدراسات الإعلامية للسكان و التنمية و التعمير. و الذي شغل منصب نائب رئيس اتحاد الصحفيين العالمي (80/1985م). كما ساهم في تأسيس اتحاد الكتاب و الصحفيين الاريتريين 1974م، و اصبح رئيساً له. و تقدم بطلب عضوية مراقب في اتحاد الصحفيين العرب في اجتماع الأمانة العامة المنعقد في بيروت 1975م. و أكتسب العضوية الكاملة في المؤتمر العام الرابع لاتحاد الصحفيين العرب بدمشق 1976م، و أصبح رئيسه عضواً تنفيذيا لسنوات حتى تقلد منصب مساعد الأمين العام لاتحاد الصحفيين العرب في عهد رئاسة الأمين العام العراقي سعد قاسم حمودي. و أكتسب الاتحاد الاريتري لاحقاً العضوية الدائمة في المركز العربي للدراسات الإعلامية للسكان و التنمية و التعمير. و عضوية مراقب في اتحاد الصحفيين العالمي.

كان الجندي المجهول وراء تنظيم الندوة الدولية حول اريتريا التي أقيمت في العاصمة التونسية. أعدها بالتنسيق مع مكتب العلاقات الخارجية و الاتحادين الصحافي و الطلابي للجبهة. و بدعم مالي من رجال الأعمال منهم الكويتي أبو يعقوب الحاج يوسف الفليج. و أقيمت الندوة على شرف الوزير الأول التونسي محمد مزالي (1925 - 2010م)، و حضرها نخبة من الإعلاميين العرب و الأوروبين، و من الرعيل الأول ، إبراهيم سلطان مؤسس الرابطة الإسلامية الذي مثل اريتريا في الأمم المتحدة مطالباً باستقلال بلاده في عام 1949م، ألقى خطابه باللغة العربية و حذرهم من القرار الخاطئ :"اذا اتخذت الأمم المتحدة قراراً خاطئاً يفرض علينا أن نناضل من أجل هويتنا و استقلالنا ، فإن مسؤولية ما قد يترتب على ذلك من اضطرابات و حروب في شرق أفريقيا سوف تتحملونها أنتم أعضاء هذه الجمعية ". كما شارك في الندوة مؤسس الجبهة ادريس محمد آدم رئيس البرلمان الاريتري الأسبق في عهدها الفيدرالي. تلك الندوة التي تم انعقادها في ظل محاولات الجامعة العربية برئاسة الأمين العام الشاذلي القليبي أصلاح ذات البين بين الأشقاء الاريتريين التي شهدت ذهب ضحبتها الكثير من النُخب منهم صديقه محمد حامد ادريس(تمساح)، فكتب لأجله رثائية "تمساح.. الذهب العتيق" منشورة في انثولوجيا ترانيم ثورية، اصدار جمعية المعلمين الاريتريين، 1984م (ص:65-66). و فيها قصيدته " أغنيات الأزمنة المتعاقبة على أرخبيل الحزن، (ص:62-64) في نفس الإصدار .


(4)

ساهم من خلال موقعه في الاتحاد العربي بدعم الجميع بما فيها الصحافة السودانية، حيث دافع عن الصحافيين السودانيين الذين تعرضوا للأذى في الخارج و الداخل. و أشهرها موقفه لما حدث في مطلع الثمانينيات من اعتقال تحفظي و الحبس بناء على أوامر إدارية أو الإيقاف عن العمل لمجموعة من الصحافيين منهم لمخضرم الصحافي و الناقد الرياضي عمر عبدالتام الظاهرة الفريدة الذي جاء لرئاسة الاتحاد خلاف المعتاد لأن المتعارف عليه أن اغلب رؤساء الاتحاد من كتاب الشأن السياسي ، لكن السودان سجلت علامتها الفارقة و لا ينافسهم الا في هذه الظاهرة العراقي ضياء حسن عبدالرزاق رئبس اتحاد الرياضيين العرب. و كذلك وقفته مع الصحافي فضل الله محمد. و الصحافي حسن ساتي (بغض النظر لما عمله مع عمر عبدالتام حين تجنى عليه بصفته رئيس تحرير لجريدة الأيام أنذاك).

كما كتب عن خلاف الاشقاء الفلسطينيين، و هو يستعد لمغادرة دمشق لحضور مؤتمر الرباط :"في تلك الليلة جاء الى منزلي أبو شاور، و القاص و الروائي يحي يخلف صاحب “نجران تحت الصفر”، و معهم رئيس تحرير مجلة الهدف، الزميل بسام أبو شريف، الذي نجا من الموت بأعجوبة حينما انفجرت بين يديه رسالة بريدية ملغومة كان يحاول فتحها لكنها تركت أثارها في أنحاء جسده كله. كانوا يحملون معهم مغلفات كثيرة و هموم أكثر. شرح يحي يخلف الأسباب التي دعتهم الى اتخاذ قرار البقاء في دمشق بعد أن بلغتهم تفاصيل الاجتماع الذي عقده أبو عمار في تونس خصيصاً لبحث المشاركة في اجتماع الرباط. لم تكن التفاصيل التي سمعتها منهم تثير الدهشة أبداً، فأبو عمار كان يحرص على مناقشة دقائق نشاطات المنظمات المهنية و النقابية و الجماهيرية حرصه على تفاصيل سواها، و يعقد الاجتماع تلو الاجتماع الذي قد ينتهي فجراً أو يمتد الى ما بعد ذلك لبحث الإعداد لمؤتمر فرع صغير من فروع اتحاد الطلاب الفلسطينيين لا يتجاوز عدد أعضائه أصابع اليدين. كان هذا دأبه؛ فهو يعرف الجميع بالاسم و مكان الولادة و تاريخ الميلاد و حالته أو حالتها الاجتماعية، و يتنبأ بمن معه و من ليس معه أو من يقف بين بين، ثم يكتب قائمة بمن يريد انتخابه في ذلك المؤتمر. و قد رووا لي في تلك الليلة ما قاله في اجتماعه بكوادره عن جميع أعضاء أمانة الإتحاد العامة؛ و قد كنت عضواً فيها. حاولت جهدي في لقائنا ذاك، الذي انفض بُعيد منتصف الليل، أن أثنيهم عن قرارهم فلم أفلح، فقبلت أن أحمل رسائلهم الى الحضور بعد أن قرأت الرسالة الموجهة إليّ. كان هذا حقهم علينا، و هو أن يصل صوتهم الى زملائهم، خصوصاً أنهم أتوا عبر صناديق الانتخابات و بتوافق قواعدهم و رضا قيادات الفصائل الفلسطينية كلها. حرصتُ على أن يتسلم كل وفد من الوفود الحاضرة الرسالة التي أرسلتها إليه قيادة الاتحاد الفلسطيني المنتخبة، فطلبت من موظف الاستقبال في هيلتون الرباط أن يضع كل رسالة في صندوق الغرفة التي يسكن فيها رئيس الوفد. تسلم الجميع رسائلهم مباشرة، مما أثار احتجاج الوفد الفلسطيني القادم من تونس الذي ضم حكم بلعاوي، مدير مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في العاصمة التونسية، و بلال الحسن، الكاتب و الصحافي الفلسطيني المعروف، و آخر سقط من بين ثقوب الذاكرة. رأى وفد تونس، يؤازره رئيس الاتحاد، الزميل الراحل سعد قاسم حمودي (وذلك نكاية بسورية)، أن الإجراء الأسلم هو تسليم الرسائل إلى رئيس الاتحاد وترك حرية التصرف له في تلك الرسائل. كان واضحاً للجميع أن موقف رئيس الاتحاد نابع من الخلافات المستحكمة بين شقي حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكمين في كل من سورية و العراق، و لذلك تجاوز الحاضرون تلك النقطة الإجرائية حتى لا يستفحل الامر. فوجئ وفد تونس برسالة رفاقهم من دمشق و لم يحسبوا لها حساباً، فطلبوا نجدة من تونس تعزيزاً لصفوفهم، فأرسل أبو عمار خالد الحسن (أبو السعيد) عضو مركزية فتح، و معه رجل المهام السرية الدقيقة، عماد شقور". تجاوز المكتب الدائم عقبة الانقسام الفلسطيني الكؤد بتأكيده على وحدة اتحادهم و ببذل الجهود لإعادة اللحمة إليه، رافضا انشقاق و انقسام المنظمات النقابية الصحافية العربية. بعد فترة وجيزة من انفضاض اجتماع الرباط، و بعد اندلاع انتفاضة أطفال الحجارة، عادوا الى أحضان فتح الدافئة، يتفيأ كل منهم أشجارها الوارفة المثقلة بثمار سهلة التداول في كل الأسواق و البلاد ". كانت سنوات من العمل زامل فيها أسماء كبيرة منهم صاحب المقولة:"تأبى عروبتي وعراقيتي ان انجر الى المصيدة التي وقع فيها الكثيرون"، المخضرم الصحافي سجاد الغازي عميد الصحفيين العراقيين، الذي تلقد المنصب بدلاً عنه في عام 1988م.


(5)

كانت زيارته لبيروت في عام 1975م ، نواة لبناء علاقات مع أقطاب الصحافة في لبنان، حيث أرتبط بصداقة مع الصحافي طلال سلمان ناشر و رئيس تحرير صحيفة السفير اللبنانية. هذه الصداقة التي أدت الى وضع اريتريا في خارطة الوطن العربي النحاسية التي تزين خلفية فريق الاستقبال في مبنى جريدة السفير الرئيس في شارع منيمة في الحمراء. و كادت هذه الصداقة أن تقضي عليه، حيث التقى طلال في مطبعة السفير، و خرجا معاً لتناول الطعام. فكان خروجهما نجاة لهما من عبوة ناسفة الحقت الضرر بالمطبعة عام 1980م.

و علاقاته لا تقف عند طلال سلمان فقط . و إنما العديد من الأسماء اللبنانية المتناثرة في كتاباته، منها:" واوار الحرب الاهلية اللبنانية ما زال مستعراَ، وامراء الحرب اللبنانيين وبعض السياسيين يحجون الى العاصمة السورية زرافات ووحدانا لسبب أو لغير سبب، وكثر منهم مقيم فيها ما أقامت ميسلون يتفيؤون ظلال الكرم السوري الحاتمي، وآخرون يتبردون في بركة الفندق الغساني ويطفئون ظمأهم بالمثلجات من كل الأنواع. يستمعون الى :" فيروز في ليالي معرض دمشق الدولي و عشاقها الشوام من انحاء سورية الكبرى ومن دول المهجر والقادمين من رياح الصحراء في الجنوب، وكل هؤلاء الأكثر اخلاصاً لها وولهاً بصوتها وشدوها بكلمات جوزيف حرب الذي يكتب قصائده بالعامية و الفصحى ".

و ليست دمشق الفيحاء لوحدها بل قرينتها بيروت في سردياته خصوصاً جريدة النهار:"كنت اتردد على "النهار" في مقرها القديم عند محلة الصنائع لغرض أو لآخر أو لموعد على الغداء مع مي كحالة في مطعم البرمكي الكائن في ذات المبنى أو "الهورس شو". لم يكن أي من صحافي النهار زبونا لدى مقهى ومطعم "الاتوال" المقابل للصحفية لسبب لم أدرك كنهه حتى اليوم، بل كانوا يذهبون مسافة حتى يصلون الهورس شو. كان في النهار تلك الأيام أكثر من مي، مي كحالة ومي منسّى والفلسطينية مي ضاهر، وكل منهن، وهن في ميعة الصبا، نجمة تبرق في سماء الصحافة اللبنانية وفي الغرفة ذاتها صحافي شاب يكتب بالعربية هو أمين المعلوف الذي أصبح فيما بعد أشهر كتاب الرواية الفرنسية ثم أدخل الى معبدها اللغوي وقدس أقداسها كاهناً مقداما، وبات أحد سدنة اللغة الفرنسية المؤتمنين عليها. كان أمين المعلوف صحافياً في النهار وليس في شقيقتها الأجنبية الاوريون لوجور. لم يكن قد تتلمذ على يدي شارل حلو، الصحافي الذي انتخب رئيساً للجمهورية استمراراً لنهج الشهابية وحارساً لطريق الجنرال فؤاد شهاب، فلم يكن الا صبيا في تلك الايام. بل كانت معرفته بالفرنسية يومئذ لا تقارن بطلاقة أي مي من الثلاث. الا ان اشتداد وطيس الحرب الاهلية الضروس قبيل عقد الثمانينيات بقليل اجبره على الالتجاء الى حضن أُم لبنان الرؤوم، فرنسا، والى عاصمة الاشعاع والنور، باريس، فانكب على الفرنسية يطوّع نواصيها حتى دانت له، فكانت "سمرقند" القصية تلك هي التي اخذت الجميع بغتة وأدهشت العالم. وكنت أرى انسي في هدؤه عند قدومي أو رواحي يعالج حرفاَ أو ينقب بين السطور، فأمضي في طريقي بعد أن أحييه بإيماءة وكان يرد اما بمثلها او يلوح بيده وهو مستغرق فيما يشغله. ثم أراه يأتي عجلا الى الهورس شو فانضم الى من يجلس اليه. كان أهل "النهار" يؤممون شطر المقهى نهاراً وقلماً ترى احداً منهم في المساء أو الليل. كان هناك ميشيل "ميشال" أبو جوده وانسي الحاج وكلوفيس مقصود واخرين. والنهار هي هؤلاء مع "من حقيبة النهار" و "اسرار الالهة"، فاذا انتقلوا الى صحيفة أخرى اسمها "التنكة" على سبيل المثال، لأصبحت التنكة هي النهار وأمست النهار تنكة! ". كما وثق للفرنسيين احترامهم للحريات مستشهداً بما حدث مع نقيب المحررين اللبنانيين الراحل ملحم كرم:"في العام 1980 وجه شرطي فرنسي في باريس إلى نقيب المحررين اللبنانيين الراحل ملحم كرم، كلمة نابية يرددها الرجرجة و الدهماء و السوقة من الفرنسيين دوماً، إذ شبهه بعورة المرأة، لأنه جاء لنجدة لبناني احتجزته الشرطة هناك بسبب مخالفته أنظمة الإقامة، مثله مثل بعض السودانيين الذين اعتدى عليهم عناصر الأمن العام. كنا يومئذ في عاصمة الإشعاع و النور للمشاركة في ندوة تضامنية مع الصحافيين المصريين و نقابتهم الذين كانوا يواجهون هجوم الرئيس أنور السادات. لم يرض المشاركون في الندوة بما تعرض له الزميل ملحم كرم.

و كان بيننا الزميل يوسف العليان، ناشر كويت تايمز و نقيب الصحافيين الكويتيين و أحد القلائل الذين كانوا يتكلمون الفرنسية في الكويت وقتذاك. جاء مندوبون من قصر الاليزيه، و من الكي دورسيه (وزارة الخارجية) و من وزارة الداخلية و بلدية باريس الى مقر الندوة يكررون الاعتذار لملحم كرم و للمشاركين في الندوة عما حدث، و يعدون بإجراء فوري لعدم تكراره. عند انتهاء الندوة، بعد يومين من تاريخ تلك الحادثة، لم يبق بباريس عنصر واحد في الإدارة التي عمل فيها ذلك الشرطي. فرقوهم شذر مذر، البريء قبل المذنب، في قرى فرنسا النائية! فالجميع مسؤول عن تصرف زميلهم المسيء ".


(6)

مع مطلع التسعينيات تفرغ للعمل الشخصي و البحث عن لقمة العيش ، فعمل مستشاراً في السفارة الكندية في الإمارات. و كان حينها يتنقل بين المدائن العربية و الاوربية في الاجازة السنوية. و كانت أسمرا التي زارها قبل حرب بادمي، و أنقطع عنها منذ ذلك الحين. و كانت جدة احدى المحطات التي يزورها عابراً لزيارة سيد احمد هاشم، الذي اقام له مأدبة غداء حضرها الإعلامي رضا محمد علي لاري رئيس تحرير صحيفة سعودي جازيت ، و المناضل الزين ياسين، و كان حينها يعمل مترجماً في سعودي جازيت. و الدكتور عثمان علي أحمد ليمان .

تعرض لوعكة قلبية في مطلع العقد الثاني من الألفية لخصها في مسامرة ساخرة، سطرها في قطعة شيقة من أدب الرسائل بعنوان "عفوُ خاطِرٍ حَزينٍ مُتكدّر" الى صديقه الأديب السفير جمال محمد إبراهيم:" السفير العزيز الصديق جمال ..، من أحزاننا المتعاقبة المتشابكة المتواصلة نجاهد حتى ننتزع تحياتٍ و سلاماً و ابتساماً! فلك ما استطعت، و عذراً إن لم أقدر على بلوغ أكثر من ذلك. كلمتي إليك اليوم تأخرت قليلاً، و هي تأتي كيفما أتفق، تتداخل المواضيع فيها بلا انتظام، و تتداعى عفو الخاطر بلا ترتيب، استطراداً و قفزاً، جيئة و ذهابا. جلها خواطر غير سارة، إن لم أقل حزينة. فبعض ما يرد فيها، أرسلته لك مقتضباً في رسائل قصيرة بغير لغة الضاد، و بعضه أشرت إليه ضمن لُمعٍ شاردة، مع وعد بالعودة إليه مرة أخرى. حال دون قدوم هذه الكلمة في موعدها طارئ صحي، فقد كاد هذا القلب ان يتوقف عن الخفقان و يهمد للأبد، لولا لطف الله و بقية من أيام في عمر الشقي لابد أن تكمل زحفها الحثيث نحو المثوى الأخير"(سودانايل قي 2012.02.23م). ظل أكثر من عشر سنوات يقاوم اقتداءً بمقوله صديقه اللبناني حسن عبد الله حمدان (ت 1978م)، الذي يوقع مقالاته باسم مهدي عامل في مجلة الطريق، التي أطلق عبر صفحاتها مقولة " لستَ مهزوماً ما دمت تقاوم " استنهاضا للهمم عقب الاجتياح الإسرائيلي لبيروت سنة 1982م. ظل يقاوم الوعكة الصحية بالكتابة ثم الكتابة بغض النظر عن النشر. فكأن عفو الخاطر عنواناً لما يكتب:" هنا سأسرد- عفو الخاطر - بعض ما شاهدت وقليل مما شهدت و لمعاً مما سمعت من أفواه ثقات، كانوا من صانعي الحدّث، أو شهوداً عليه أو قريبين منه. و سأترك البحث والتحري والتوثيق والدرس للمتخصصين، الذين أدعوهم الى رصد ذلك لأثره العميق في مجرى الأحداث في السودان اليوم فضلاً عن اريتريا و القرن الأفريقي، و فيما سيتمخض عنه في مقبل الأيام.

و من بين الأحداث و المؤثرين فيها ،التي أرجو أن يقفوا عليها و عندها طويلاً ، تلك التي جرت قبل الحرب العالمية الثانية مباشرة و في اعقابها و حتى اللحظة ".يكتب تسلية للنفس مع تجويد القراءة ، فيرسلها الى مواقع النشر السودانية أو أصدقائه المقربين. نذكر منهم الأديب السفير محمد جمال إبراهيم. و هي مقالات تتوافق مع الحدث أو ذاكرة مُفعمة بالثقافة و معلومة من جراب عتيق (الصندوق الأسود). قاوم حتى غدرت به مرة أخرى كما يقول :" غدرت بي علة ظننتها مما يطرأ في الصيف عارضاً ثم يزول بُعيد أيام قلائل، الا إنها تمكنت مني، حينما أخذتني على حين غرة. وهي ليس تزور في الظلام وحسب، بل تمضي اليوم كله؛ لا تستحي من ضوء الصبح وهو يغري بها، فلا تنثني، بل تتمدد أثناءه في أنحاء الجسم، عظماً ولحماً ودما. ثم تهيّج العصب وتشعل العيون والجفون لهبا، وتضرم النار في الجلد سياطاً من سعير. بذلت لها المطارف والحشايا كما فعل أبو الطيب، وأمطرتها بعصائر من حمضيات المتوسط لا تتوافر الا في الشتاء، جلبتها من هنا وهناك فلم يرقها، بل زادت من ضرامها، حتى إذا ما أيقنت أنها قضت حاجتها آثرت الرحيل بعد أن أنهكت الجسد وذرته ضعيفاً واهنا. لذلك تجد الحديث في هذه الرسالة مرسلاً، بلا ترتيب، لا ينتقي، فيه من كل نبع قطرة "." رحل محمود درويش بعيداً عن فلسطين، ثم عاد اليها محمولاً على الاعناق ليواصل غنائه للأرض الطيبة من مرقده، وترجل ايزاك هيز هنيهة ثم سافر مع ألحانه الى جمهورية فيلا كوتي وحط رحله هناك. عاد الى النبع مرة أخرى يرتشف من مائه ما يطفئ ظمأ الاخرين! حبس الناس أنفاسهم لما علموا انهما لفظا انفاسهما الأخيرة".

هذا ما كتبه في مقال بعنوان: نستحضر الغياب .. عن ذكرى رحيل محمود درويش و ايزاك هيز، مؤرخ في 06 أغسطس 2022م. هذا ما كتبه فكانما يرى موته .. هل هو إحساس بالرحيل حين يقترب الأجل ؟.. مضت سنة و احدى عشر يوماً يخاتل الوعكة ، و هو الغريب في بلاد "انجلو فرنسيس" حتى طواه الثرى في كندا . بعيداً عن السودان الجريح بسبب حرب الأشقاء ، و مصوًع التي أكتسى بسحنتها الساحلية.

رحل بصمت تاركاً جرابه بلا قلم يسطر ما فيه من كنوز معرفية و كلمات فخيمة. أما مقالاته و مراسلاته الخاصة المكنوزة عند أصدقائه فتلك أمانة عليهم الافضاح عنها لما فيه من اثراء معرفي .


** العنوان اقتياس من مقال للراحل (ادريس عوض الكريم يفرغ حبر دواته و يرحل).

** نصوص الكاتب منقولة من مقالاته المنشورة في موقع سودانايل و المواقع السودانية و الاريترية.


jaliloa1999@gmail.com <<<<<المصدر

32 views0 comments

Comments


bottom of page