top of page
tvawna1

ربما كان أبي آخر الإرتريين المحاربين في الجيش الايطالي

Updated: Apr 9


بقلم الاستاذ / محمد عثمان علي دانيا 28 مارس 2024 الحديث عن الاستعمار الايطالي لإريتريا ( 1885م الى مارس 1941م)، يعتبر حديثا ذو شجون لكل من يدلف في ذاكرة من عاشوا تلك التجربة وتكبدوا عناء الحروب التي كانت تخضوها ايطاليا



في اثيوبيا والصومال وليبيا. وقد تزامنت وفاة والدي الحاج عثمان علي محمد جابر دانيا في 22 مارس الماضي في ارتريا، عن عمر ناهز 108 عاما، مع هزيمة ايطاليا في معركة كرن التي شارك فيها لقرابة الشهرين. فقد أنهي الجيش الإيطالي انسحابه من كرن 27 من مارس متجها الى اسمرة رافعا الرايات البيضاء، ودخل في عدي تخليزان في مناوشات قصيرة لتأخير تقدم الانجليز وتامين هروب الايطاليين الى باضع، وحتى هذه المهمة أوكلت الى الجنود الارتريين، لأن الايطاليين كانوا على عجل من امرهم ليلحقوا بالسفن التي كانت تنتظرهم في باضع. ولد الحاج عثمان في قرية عايليت، في إقليم سمهر. وعايليت واحدة من مجموعة بلدات تقع بين باضع (مصوع) وقندع، وغير بعيد عن الطريق الرئيسي الذي يربط العاصمة اسمرة وميناء باضع. وكانت هذه المنطقة تضم العديد من البلدات المتفاوتة الاحجام، أهمها دماس وعسوس وعايليت وجمهوت، وعد شوما وقحتيلاي وماي اعطال وشعب شمالا ...الخ. وعند دخول الايطاليين لإريتريا كانت هذه البلدات موطنا لاعداد كبيرة من السكان الذين كانوا يعتمدون في حياتهم على الزراعة والرعي، ويستفيدون من موسمين زراعيين، صيفا في المرتفعات وشتاء في سهول سمهر، حيث يعودون الى بلداتهم الاصلية ابتداء من شهر أكتوبر. ولكن اليوم وباستثناء قحتيلاي وعسوس وشعب، لم يعد لهذه البلدات الا وجود اسمي، بسبب هجرة السكان منذ ستينيات القرن الماضي الى مناطق أخرى وبلدان المهجر. فإرتريا، ومقارنة ببقية المستعمرات الإيطالية، كانت هادئة نسبيا، وشهدت نوع من التنمية والتطور في بينتها التحتية التي أقيمت لخدمة المستوطنين الايطاليين وراحتهم واستثماراتهم، بينما لم يهنأ الشعب الارتري لا بهذا التطور أو بذلك السلام النسبي، بسبب الحروب التي كانت تخضوها إيطاليا في بلدان أخرى وتستنزف فيها طاقات وارواح الشباب الارتري. فإيطاليا كانت تمارس التجنيد في فترات السلم القصيرة بتقديم الاغراءات المالية والرواتب الشهرية، وعند اشتعال الحروب في ليبيا والصومال واثيوبيا، كانت تستخدم قوتها القهرية لتجنيد الشباب الارتري في جيشها فتأخذهم من المراعي والطرقات، ولهذا كان لا يعرف مصير المئات، بل والالاف منهم الى يومنا هذا. فكان ابي من بين ضحايا هذا التجنيد، حيث نقل بعد استكماله التدريب العسكري الى كسلا واستقر به المقام في مدينة أروما السودانية كغيره من المئات من الارتريين والصوماليين، الا ان الهجوم الايطالي على كسلا واروما كان قد اثار غضب الانجليز الذين حشدوا قوات كبيرة من مختلف مستعمراتهم وخاصة الهند والسودان فاستعادوا المدينة في غضون شهور معدودة. واجبرت القوات الإيطالية للعودة الى ارتريا، ولكن الإنجليز لم يكتفوا باستعادة كسلا وما حولها، بل زحفوا نحو ارتريا في اطار ما يعرف بالحرب العالمية الثانية، ودخلوا في مواجهات دامية في كرن استمرت لنحو شهرين (فبراير ومارس 1941). فمعركة كرن لها رمزية خاصة باعتبارها آخر المعارك بين القوى المتحاربة في الحرب العالمية الثانية في شرق افريقيا، وعليه كانت هزيمة إيطاليا فيها هزيمة لقوات المحور (ألمانيا وإيطاليا واليابان)، وانتصارا لقوات الحلفاء. كما مثلت هزيمة إيطاليا في كرن نهاية للوجود الاستعماري الإيطالي في ارتريا والصومال وليبيا. وما يجعلني اكتب عن هذا اليوم لم يكن رثاء لوالدي، بقدر ما اردت التذكير بالمحن التي كان يتعرض لها الشباب الاريتري حينها من جيل ابي أو الاجيال التي سبقته خلال فترة الاستعمار الإيطالي. فالشعب الارتري يستنزف في حروب مأساوية لقرابة القرن ونصف، لان ما سبق هذه الفترة من حروب كان دفاع عن الوطن والاعراض بالتصدي لهجمات الغزاة الإثيوبيين وبشكل خاص التجراي. فسلسلة الحروب المأساوية لم تنقطع، ولا تزال طاقات شبابنا وارواحهم تستنزف في حروب لم تحفظ لهم حتى أدنى قدر من الكرامة كجنود في جيش نظامي أوروبي، وفي كل الحروب التي خاضوها مع إيطاليا ومعركة عدوة لم تكن استثناء، بل ساءت المعاملة وكثر الاهمال لاحقا عندما تولى حكم إيطاليا نظام موسليني العنصري. ثانيا: مأساة حروب كهذه لم يكن في استخدام الأجنبي لأرضك ساحة للقتال، بل استغلال الموارد البشرية والطبيعية للبلاد المستعمرة. فاذا نظرنا الى الطرفين المتحاربين في كرن لقرابة الشهرين سنجد اغلبهم من مواطني المستعمرات. فالجيش الإيطالي المرابط في تحصينات كرن كان يضم اعداد كبيرة من الارتريين والصوماليين، بينما كان الهنود والسودانيون والجنود القادمين من المستعمرات الإنجليزية الأخرى، يشكلون اغلبية ساحقة في الجيش البريطاني. ولتوضيح هذه النقطة لابد من الإشارة الى ان القوات البريطانية التي شاركت في الحرب العالمية الثانية كانت تضم أكثر من مليون ونصف جندي هندي، بينما لم يتجاوز عدد الجنود البريطانيين الذين حكموا الهند وما حولها 150 ألف جندي. وقص على ذلك حجم المأساة والخسائر! اذن اغلب المشاة من أبناء المستعمرات، بينما كان يسطر الايطاليون على الأسلحة الثقيلة والطيران وسلاح الهندسة والامدادات العسكرية واللوجستية، وهذا يعني ان عدد الخسائر في الأرواح والاصابات تكون اضعاف الايطاليين بحكم المواقع والمهام وطبيعة الأدوار في المعارك. ومعركة كرن كانت قاسية على الجيش البريطاني المهاجم، الذي عجز عن اختراق الدفاعات الإيطالية في المدخل الغربي لمدينة كرن لقرابة الشهرين، ولان الايطاليون كانوا يسيطرون على المرتفعات المطلة الى الطرقات المؤدية الى كرن مما كان يلحق خسائر كبيرة في الطرف المهاجم بالرغم من الاستخدام الكثيف للأسلحة الثقيلة والطيران. ولضراوة المواجهات والخسائر يقال ان الجنود السودانيون هم الذين أطلقوا اسم جبل النحس على مجموعة التلال العالية التي تشرف على المدخل الغربي لمدينة كرن، وحورت لاحقا الى طنقلحس حسب بعض الروايات المتداولة. ولم يتحقق الانتصار للجيش البريطاني الا عندما التف على كرن بهجوم من ناحيتي عيلا برعد ومن الشمال، فأدرك الايطاليون حينها بأن خطوط امداداتهم من اسمرة وباضع لم تعد قائمة فأقروا بالهزيمة وانسحبوا من المدينة رافعين الرايات البيضاء. ثالثا: عندما بلغ الجنود الارتريون اسمرة واتجهوا الى معسكر الجيش الإيطالي في منطقة حزحز لم يجدوا الإيطاليين الذين كانوا قد غادروا المعسكر متجهين الى باضع، ومن وجودهم لم يكن امامهم متسع من الوقت للحديث معهم، فتعاملوا معهم وكأنهم لا يعرفونهم، فما كان على الجنود الارتريين الا ان رموا أسلحتهم في المعسكر واتجه كل واحد منهم الى اهله، بينما تقطعت السبل بالجنود الصوماليين فبقوا في وطنهم الثاني ارتريا. رابعا: سقط في هذه المواجهات العديد من الجنود الارتريين والصوماليين، ولكن لا نجد اثرا لمقابرهم، ولا يعرف أحد مصير الجرحى الذين تركوا وشأنهم عند انسحاب الجيش الإيطالي من المدينة. بينما نجد مقابر الجنود الايطاليين في المدن الارترية الى هذه اللحظة أشبه بحدائق بنيت كمتنزهات لسكان هذه المدن التي أقيمت فيها، بفضل الحدائق التي تزينها وجمال ودقة تنظيمها، وما تزخر به من أنواع الزهور، والرعاية التي لا تكاد تتوفر لحديقة القصر الرئاسي في اسمرة. فكل قبر فيها يعلوه نصب تذكاري من الرخام الأبيض فيه صورة للجندي الإيطالي وموجز لسيرة حياته وتاريخ وفاته باللغة الايطالية، بينما لا نجد اثرا للجنود الارتريين الذين كانوا يدفنون في امكان سقوطهم ودون ان تحتفظ لهم حتى سجلات يستدل بها ذويهم لمعرفة مصيرهم. فالشقيق الأكبر لوالدي مثلا، وهو سعيد علي محمد جابر دانيا، الذي التحق طوعا بالجيش الإيطالي قبل غزو إيطاليا لإثيوبيا عام 1935م، لم يعرف له اثرا منذ ذلك الحين، فهل قتل في الحروب التي خاضتها ايطاليا في اثيوبيا أم ليبيا أم الصومال لا احد يعرف. وظلت قصة عدم معرفة مصير العم سعيد تؤرق والدي على مدى حياته، وكثيرا ما كان يمني نفسه برؤيته أو سماع أي كلمة عنه، ولكن رغم العمر الطويل غادر الحياة دون ان تتحقق له أي من هذه الاماني. وعلينا ان نتخيل حجم المعاناة التي تعرض لها الجنود الارتريين والصوماليين الذين تخلى عنهم الايطاليون في ليبيا واثيوبيا (على النحو الذي فعلوه في ارتريا عند هزيمتهم امام بريطانيا). ان تترك وشانك وسط سلطات وشعوب معادية ذهبت اليها ضمن جيش اوروبي غازي لمحاربتها، فتتقطع بك السبل ولم يعرف عن مصيرك الى هذا. فالاستعمار الإيطالي الذي يتحدث عنه بعض الإرتريين بنوع من الاريحية الزائدة وتحمي اليونسكو وحكومتنا المبجلة إرثه المعماري في عاصمتنا اسمرة، بما في ذلك المباني التي تحمل شعارات الفاشية، هو الذي استهدف بنية مجتمعنا الارتري وفكك نظامه الاجتماعي الذي كان يشكل مظلة سياسية وعسكرية حمت البلاد على مدى قرون طويلة وهذه حقيقة يدركها التجراي أكثر من غيرهم. فتركت إيطاليا المجتمعات دون رؤوس تدافع عن مصالحها، ولا صوت يعلوا في وجهها، فاستنزفت الشباب في حروب لا تعني لهم شيء غير الدمار وفقد الأرواح، لأن الاستعمار الإيطالي كان يتعامل معهم كأدوات أو مرتزقة في أحسن الأحوال. كان من المتوقع بعد التحرير ان تتولى الحكومة مهمة فتح ملفات الحروب الإيطالية ومعرفة مصير الارتريين المفقودين فيها، ولكن للأسف خرجنا من استعمار إثيوبي لنعود الى أجواء الاستعمار الإيطالي والبريطاني، نفس الاستنزاف وتمزيق وحدة المجتمع، والإهمال، ونفس اللغة التي درج الناس في استخدامها في العد الايطالي، فيتباهى من يتم تجنيدهم قسرا بأنهم التحقوا بالثورة او الجيش متناسين ما تعرضوا له من إذلال وانتهاك لكرمتهم وحريتهم بإجبارهم على حمل السلام رغم عنهم لمحاربة شعوب لا يعرفونها ولا تربطهم بهم اي عداوة.

449 views0 comments

Comments


bottom of page