بقلم الاستاذ / فتحي_عثمان 23/02/2023 ارتريا والخطر الداهم ومسئولية التنوير لا خلاف حول المهددات الوبيلة التي تحدق بارتريا؛ فهذه البلاد كانت ولا زالت وسوف تظل مهددة على الدوام من الخارج ومن الداخل أيضا.
نقول هذا بناء على فهم كررناه إلى حد يبعث على الملل؛ وهو أن الساسة في منطقتنا يجعلون من المهددات والخطر الدائم ونظريات المؤامرة خبزهم ومصدر عيشهم وبقاءهم على كراسي السلطة. بموجب سياسة المحصلة الصفرية هذه فإن ارتريا قوية ستكون تهديدا لتيغراي وشعبها، وأن اثيوبيا مزدهرة ستكون تهديدا لمصر وشعبها، ومصر قوية ستكون على حساب السودان وشعبه.
هذان هما الفهم والممارسة اللذان يرسمان خطوط السياسة والحرب في منطقتنا. أن يتسرب هذا الفهم إلى عامة الناس فهذا أمر طبيعي؛ لأن الساسة يعملون على جعله (ايمانا شعبيا) ثابتا، لكن أن ينقاد المثقفين إليه انقيادا أعمي فهنا تكمن الكارثة.
الحرب الأهلية الاثيوبية الأخيرة أحدثت تصدعات في العمل السياسي الارتري، هذه التصدعات تذكرني بمعلومة جغرافية درسناها في المتوسطة تقول بأن الجبال في كل من النمسا وسويسرا يسمع لها، خاصة في الليل، أصوات تكسر وتصدع، وتفسير تلك الظاهرة هو أن الشقوق في الجبال تعمل كخزانات للماء عند هطول المطر، وعندما تصل درجة الحرارة إلى درجة التجمد يتجمد الماء، ويتمدد فيوسع الشقوق فيسمع لها صوت عند التمدد والتوسع. في حال عملنا المعارض فإن السماء لا تكف عن المطر، ودرجات الحرارة تصل إلى حد التجمد، وصوت التشققات والتصدعات يصم الأذنين.
في هذه الأثناء كان أغلب من أشار إلى الخطر الداهم والوجودي الذي يتهدد ارتريا من طرف تيغراي أخوة وأخوات نشطوا في المنظمات والأحزاب لفترات طويلة، وبعضهم وضع يده على يد الطاغية في اسمرا تحت مبرر الدفاع عن الوطن. وبرر بعضهم خطوته بأنها (اختيار أهون الشرين): بمعنى الاختيار بين خطر التهديد الوجودي القادم من الخارج وخطر الاستبداد المخيم على البلاد. هذه الخطوة جردت هؤلاء النفر من الريادة والقيادة؛ لأنهم وقعوا موقع المضطر والمكره، والقائد الحقيقي يجترح الطرق البديلة ولا يفاضل بين الشرور؛ لأن مهمته هي الوقوف ضد الشر جليله وحقيره. وموقف المكره المضطر لا يشجع المقود على اتباع خطوات القائد في هذه الحالة بالذات. فإذا كان القائد يتخذ قراره خضوعا لإكراهات الواقع، فإن عنصر القيادة المستقلة والمتبصرة مات تماما.
وقبل اختيارهم (الاضطراري) هذا كان حري بهم أن يقوموا بالتنوير، خاصة وأنهم يدعون بأنهم يمتلكون المعلومات والأدلة الدامغة التي تجرم وتدين كل وقف ضد الوطن وشكل خطرا وجوديا عليه سواء من ابناءه أو من اعدائه. وهنا كانت مسئولية التنوير عملا وطنيا لا يحتمل التأجيل أو التسويف، وإلا اصبح التأجيل نفسه (خطرا آخر) بمرور الوقت. فالتنوير بالخطر الداهم وكشفه ومواجهته إذا لم يحدث الآن وعند الحاجة فمتي يتم إذن؟ وهنا لا نتحدث عن ثلاثة أو اربع اسطر في تويتر أو فيس بوك بل مجهود منظم وهادف وحادب لكشف الخطر الداهم. ولكن التنوير المنشود أخذ، للأسف، منحي آخر بتبني (تبريرات اسياس) بكاملها، في كسل وتراخ عن خلق تنوير مغاير، لأن تبريرات اسياس لا يمكن اعتمادها لا لسبب إلا لأنه (طرف في الأزمة) وهو أحد أقطابها، وباعتراف هؤلاء الأخوة والأخوات، باعتبارهم له أنه (أهون الشرين).
هذا الموقف يذكر بموقف يتكرر دوما في الشاشات وهو مشهد حديث الفريق أول ركن فلان الفلاني رئيس جهاز الاستخبارات امام الميكروفونات وتصريحه ب "بوجود أدلة ومعلومات حول جهات تسعى إلى احدث البلبلة والفتنة وتهديد الأمن القومي". هذا النوع من الحديث يدل على أن الرجل هو أحد اثنين: إما أنه لا يعرف ما يتحدث عنه؛ أو أنه يعرف ويتحدث لغرض سياسي خفي. فإذا كان الرجل رجل أمن واستخبارات فالأولى له أن يواجه الخطر بدلا من يتحدث عنه مثيرا الخوف والقلق لدى السامعين، أو أنه، في الحالة الثانية، يمارس عمل سياسي يتناقض تماما مع مهامه الأمنية والوطنية.
عند الأحداث الجسام تقوم الدول والمؤسسات والأفراد بإصدار كتب بيضاء، وسوداء، وغيرها لكشف جسامة الأحداث وتحميل المسئولية بالمستندات والأدلة للجهات المتورطة فيها، وذلك حتى تصبح الحقيقة المقدمة في هذه الكتب شهادات للتاريخ. ونحن للأسف لم نقرأ من هؤلاء الأخوة والأخوات مجرد مقالات تنورنا بالخطر الداهم الذي يحيق بالبلاد والعباد.
حتى أسلوب مواجهة الخطر كانت انفعاليا وضارا أكثر مما كان فعالا ومفيدا، فالوياني عمدت إلى إحداث شق مجتمعي ارتري ضمن حرب نفسية موازية للحرب بخلق حملة (طبح طبح) المعروفة والتي أنجر إليها الكثيرون ووقعوا في فخ العدو الذي يحاربونه. وقس على ذلك بما تواتر مع الحرب من حملات وحرب نفسية.
الآن وبما أن الحرب وضعت أوزارها؛ لا زالت المطالب بالتنوير حول الأخطار المحدقة بالبلاد تزداد الحاجة لها يوما بعد آخر، وعلى الأخوة والأخوات تقديم شهادات للتاريخ وللبلاد وللأجيال القادمة، ليس كسبا لمعركة بل من أجل عيون ارتريا الدامعة ونفسها الكسيرة. ولا وقت أفضل من الآن للحديث، وكل تأجيل هو مضاعفة للأخطار.
هذه الكتابة تجئ بروح المناشدة والمطالبة وليس بروح التحدي والمبارزة، لأننا نتفق تماما حول الأخطار والخطوب المدلهمة. ولأيماننا المطلق بأن ارتريا ليست افورقي وأن افورقي ليس هو ارتريا بأي حال من الأحوال.
والتواني عن مسئولية التنوير عند هؤلاء الأخوة والأخوات تجعلنا نقف أمام موقفين، مشابهين لموقفهم عند اختيار (أهون الشرين) وهو أننا إما إزاء شخص يعرف ولا يتكلم؛ أو شخص يتكلم ولا يعرف.
هنا أقف، واتوقف، تاركا المساحة المتبقية للقراء، وفوق كل ذي علم عليم.
Comments