بقلم / آمال صالح - 10 سبتمبر 2024.
حين رأيتك بجانب الإنسانة والفنانة المبدعة دهب فاتينجا، والتي أتت لتعودك وأنت تتعافى من ألم ما أصابك حينها. وكان ذلك قبل وقت قصير . إنتابني حزن عارم، حاولت مغالبته ببعض الأمل والدعوات. فكرت في لحظتها بأن أسعى للوصول الى رقم هاتفك. فكرت بالاتصال بك والحديث اليك. كنت أفكر بك كثيرا وتحدثت الى بعض الصديقات والأصدقاء عنك، عن كيف أنك مهم وقريب وأساسي فينا. وكيف أننا نحبك ، أحببناك كثيرا أيها القدير.
ولأنني لست بتلك السرعة، أو لأن الحياة تبطئنا كثيرا عن فعل ما يجب علينا فعله . لم أفعل. بل بدأت بعدها بحين في محاولة خط بعض الكلمات لك وعنك. وتلك أيضا، أبطأتها تفاصيل اليومي المرهق في حياتنا. ولكن كنت أود أن أقول لك أن:
التاريخ لا يكتبه المنتصرون فقط. التاريخ لا تحده صفحات الكتب ولا مكتبات الأرشيف الانتقائية. التاريخ متعدد وطويل .وله مئة طريقة وطريقة مختلفة، لسرد الحيوات وحفظ تفاصيلها. للتاريخ أزقة وحواري خلفية نابضة بالحياة، عصية على النسيان ومزهرة في ذاكرة الآخر وفي الأغنيات.
الأغنيات ذاكرة مكتملة وتاريخ مكتمل المقام .وأغنياتك وفنك بل أنت بكاملك يا عثمان ،مقام تاريخي في الذاكرة والوجدان الفني لشعب بأكمله.
حين كنت أستمع الى أغانيك وأطرب لموسيقاك الساحرة كنت أفعل ذلك في هدأة من ضجيج الوقت ومن صخب اسمرا الغارقة حينذاك في إيقاع واحد رغم تنوعه. كان صوتك يا عثمان ينقلني الى عوالم أخرى غير مرئية. إلى تاريخ آخر للمدينة. تاريخ تتلمسه وحدك ودون جهد، و عبر تلك الألحان.
يقول الشاعر الإنجليزي جون كيتس الألحان المسموعة عذبة، ولكن الأعذب منها تلك غير المسموعة. تلك الألحان غير المسموعة في موسيقاك كانت تجعلني أرى شوارع اسمرا وأزقتها بعين أخرى. كان انتقال إلى زمن مضى ووجه آخر لتاريخ تلك المدينة غير المكتوب. . هذا بعض أثر موسيقاك في.
كانت اسمرا، تتشكل في وجداني بذاكرة بصرية جديدة. وكان صوتك وأغانيك يا عثمان جزء من تلك الذاكرة.
سمعتك في احدى لقاءاتك المسجلة، وكنت أتمنى أن التقيك وأحاورك في زمن سابق، كم يحزنني أنه لم يحدث، سمعتك تتحدث عن بداياتك وتحكي عن تكوينك الفني وذاكرتك الموسيقية والتي تأثرت بالموسيقى العالمية لذلك الزمن، بموسيقى الجاز، والبلوز في ستينات القرن الماضي، تحدثت عن البيتلز والموسيقى الغربية التي كنت تستمع اليها عبر إذاعة قانيو ستشن.
وتحدثت عن تأثرك في بداياتك بموسيقى الفنان السوداني العظيم محمد وردي." أنا أيضا أحب ذلك الوردي كثيرا". والأكثر من ذلك ،كان مما لفت انتباهي، هو حبك وتأثرك بالكلاسيكيات العربية من أغاني وموسيقى عبدالوهاب، فريد الأطرش، أم كلثوم والعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ. تحدثت بمرح وحب عن عبد الحليم حافظ. حتى أنني فكرت أنك تشبهه كثيرا في عذوبة أغانيه وصوته الشجي. أنت عندليبنا الإرتري يا عثمان. غنيت للحب وبالحب صنعت كلمات موسيقاك وصغت عذب وفريد ألحانها.
عندما أستمع الى فقري عوور آميني، أمنت بالحب الأعمى يا لعذاباتي، يا لشقائي. يملئ الحب قلبي مرة أخرى .
الحب موضوعتك الأساسية ومبتغى موسيقاك... وكيف لا وأنت واحد من فناني الحقبة التاريخية الصعبة التي كان الحب فيها، هو المفر والمنفذ الوحيد للفن وربما للحياة كلها آنذاك. قلت أنك بدأت بالغناء في حفلات ملتقيات الشباب. كنت تغني لفنانين سبقوك، مثل برهان سقيد، تولدي ردا، الأمين عبداللطيف وغيرهم. ذلك قبل أن تصطف جنبا الى جنب معهم لتصبح واحد من أميز فناني الأغنية الإرترية الكلاسيكية.
عندما كنت أقدم إحدى برامج المنوعات في التلفزيون الارتري في بدايات عملي هناك، كنت أبحث أحيانا عن القديم من الأغنيات التي كانت تغنى في اسمرا. ولم أكن محظوظة إلا بأغنية واحدة للفنان تخلى تسفازقي، لبي تلمني. أغنية رقيقة كنت أحبها وأهديها لمن أحب من الأصدقاء. عرفت أنك كنت مع تخلى تسفازكي من رواد الأغنية العاطفية والأكثر استماعا اليهم بين شباب ذلك الجيل، كم كان ذلك رائعا.
مصوع، المدينة التي ولدت فيها وتنفست هواها بحريا، نقيا، قبل أن ترتحل إلى الهضبة. الى اسمرا وتناقضاتها، كان لا بد لها، أى لمصوع أن تفعل سحرها فيك و تلهمك بواحدة من أجمل أغنياتك:
اب كتما مصوع ، طقا دندس بحري.
تز ايلو تذكرونب ، زحلفوكو فقري
ثم تلك الألحان الراقصة المرحة، وأنت تغني:
قسري سلكي هيبكي دونجخيني
معاس كم نراخب طفيئوني.
خارج الإيدلوجية، وبعيدا عن الحرب، نشأت شابا محبا، صوفيا مخلصا للفن . بين كنسية القديسة مريام ، اندا مريام وبين جامع الخلفاء الراشدين قضيت سنوات طويلة من طفولتك وشبابك. و كأن الحياة و ضعتك عن قصد. في ذلك التقاطع، لتكون صلة وصل هنالك وتتشرب من تفاصيل المكان وحكايا الناس الكثير ، ومن ثم لتعتقها بطريقة السهل الممتنع في أغانيك و موسيقاك.
هكذا أراك، ملتصقا بالحب أسلوب حياة. ومخلصا له،و للمحبين،و العاشقين، ، جيل وراء جيل.
صنعت أغانيك ذكريات لهم وذاكرة للمدينة،و لحياة الكثيرين الذين باختلاف اهواءهم، أفكارهم،، ديانتهم، غنوا معك للحب وبالحب تركوا بصمة خاصة لا تخفى على عين المحب.
ليتنا ظللنا هنالك معلقين بالحب. ليتنا استمعنا الى أغاني الحب فقط ، ربما لكانت الحياة أكثر رأفة بنا يا عثمان.
الدهشة يا عثمان في إختياراتك للسياق الموسيقي المتقن في كل أغنياتك ، فمثلا عندما غنيت أغنية، أمي. اددي ودلاديتي، بايقاع الجوايلا، كان ذلك اخيتارا فائق الحساسية والإبداع. فالغناء للأمهات لابد أن يكون لصيقا بالأصالة وممزوجا بكل ما هو يومي وخاص . وقد فعلت ذلك بتنسيق المبدع الذي خلق مناخا حميما بعث في دواخلنا عوالم الأمهات، تفاصيلهن الدقيقة، روائحهن ،و رائحة البيت، الطعام وتفاصيل كثيرة كما نعرفها تماما.
غنيت كثيرا و أغنيت وجدان الإرتريين جيل بعد جيل من الستينات والى الآن. غنيت بالعربية، و غنيت الأغنية الوطنية وأبدعت حين غنيت بالتقراييت، أي ديلكو.
أذكر اني حملت صوتك معي في أحدى المرات وكنت في دورة إعلامية في جزيرة موريشيوس .كان ذلك في متصف التسعينات . لم أكن حينها أتقن من التجرينية التي كانت لغة أغنيتك يا عثمان، سوى القليل ، ولكنه كان بما يكفي ليجعلني ألتصق بصوتك ، بكل ذلك الحب وتلك العذوبة التي كانت تدفع روحي وتبهج ساعات وحدتي .
فيما بعد وبعد انتهاء التدريب طلب مني أن أجري لقاء مع الإذاعة المحلية الرئيسة، وكنت قد وثقت بالمحبة صداقات كثيرة مع موريشيوسيين من إعلاميين ومن أهل تلك الجزيرة الساحرة. تحدثنا عن ارتريا، تلك البلاد التي لم تكن حتى وقت قريب واضحة على خارطة العالم. تحدثنا عن حرب التحرير الطويلة وعن والتضحيات و حدثتهم كثيرا عنا ، عن الإرتريين، في تنوعهم وتفردهم. وحين تحدثنا عن الفن ، كنت تقف هنالك إلى جانبي ، مسانداً ، محباً شامخاً، لتقول معي مالا تقله الكلمات. أعتقد أن موريشيوس كلها استمعت واستمتعت بصوتك. بتموجات صوتك وألحانك التي هي الأخرى رفيقة البحر وسليلته .
سمعتك تقول أكثر من مرة في لقاءاتك: أن الفن بالنسبة لك هو قيمة عليا. فوق السياسة. ولكنها لا تعلو على الوطن. كنت ترفض أن تصنف سياسيا. وكنت في كل مرة أستمع اليك أدرك أن البساطة والشفافية والمحبة هي كل ما يتأسس عليه الأنسان والفنان فيك، وهو ما جعل الإرتريون جيل بعد جيل يتوافدون اليك، محبون، مريدون ، كما يليق بفنان متصوف ومحب هو أنت. عثمان عبد الرحيم.
* الفنان الإرتري القدير عثمان عبد الرحيم من مواليد مدينة مصوع عام ١٩٤٨
نشأ في اسمرا في الحي المقابل لكنيسة القديسة مريم وبين جامع الخلفاء الراشدين في اسمرا.
درس وتخرج من المعهد الديني الإسلامي في اسمرا ومدرسة الجالية العربية في اسمرا .
تم تصوير أولى أغنياته في التلفزيون الاثيوبي . ١٩٦٤. في العام ١٩٧٥ التحق بفصائل الثورة الإرترية .
أثرى الفنان عثمان عبدالرحيم الفن والموسيقى الإرترية بإنتاج كبير وغني ومتنوع.
ورحل عثمان عبدالرحيم يوم السبت 7 سبتمبر في المنفى بمدينة استوكهولم - السويد.
آمال صالح - 10 سبتمبر 2024.
Comments