يرى مراقبون ضرورة وجود نضال سياسي يجبر النظام على الانتقال إلى نموذج حكم مختلف
محمود أبو بكر صحافي مختص في شؤون القرن الافريقي
الخميس 25 مايو 2023 يستعيد الإريتريون في نهايات شهر مايو (أيار) من كل عام، ذكرى تحقيق الاستقلال الوطني، بعد نضال سياسي طويل، ومقاومة مسلحة استمرت لثلاثة عقود كاملة (سبتمبر/ أيلول 1961 - مايو 1991)، حين تم تحرير البلاد بالكامل في 24 مايو. وعلى رغم ما يمثله هذا التاريخ من مكاسب سياسية ونضالية مهمة قادت بالنتيجة إلى إعلان الاستقلال في مايو 1993، بعد استفتاء شعبي عام، رعته الأمم المتحدة وراقبه مندوبو مختلف الدول والمنظمات الإقليمية والدولية، وما حققه ذلك من قيام الدولة الإريترية المستقلة، فإن ما تلى ذلك الحدث، من دخول البلاد في نزاعات عدة مع جيرانها، لعل أهمها النزاع الحدودي مع إثيوبيا (1998 – 2000)، قد أهدر الكثير من فرص التنمية، وتحقيق حلم بناء دولة العدل والسلام والاستقرار، كما منىّ الإريتريون أنفسهم لأكثر من مئة عام مضت.
صورة لأفورقي مرفوعة على واجهة أحد المحال في أسمرا (أ ف ب) وكانت الحرب دوماً هي العنوان الرئيس لتبرير تأخر الاستحقاقات التنموية والانتخابية والانتقال من مرحلة "الشرعية الثورية" إلى "الشرعية الدستورية"، حيث لا يزال أسياس أفورقي، زعيم الجبهة التي أكملت مهمة التحرير، هو رئيس البلاد منذ عام 1991، من دون إجراء أي انتخابات رئاسية، في حين يغيب تماماً دور المؤسسات التشريعية والرقابية كالبرلمان، فضلاً عن تجميد الدستور (المصادق عليه في عام 1997) تحت المبرر ذاته، الحرب وتعرض السيادة الوطنية للمخاطر.
فماذا جنى الإريتريون من الاستقلال؟ وهل تعيش البلاد تداعيات فشل النظام السياسي في إقامة الدولة المستقلة، في ظل استمرار حالات العداء والعزلة التي تتعرض لها الدولة خارجياً، وواقع غياب دولة العدل والديمقراطية التي يهتف لها إريتريو الداخل في شهر مايو من كل عام، وينتظرون وعودها من النظام الحاكم الذي يحمل مسمى "الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة"، من دون تحقق شروط تلك التسمية على الراهن السياسي الإريتري. الاستقلال المكبوت ويرى الناشط السياسي الإريتري صابر رباط، "تمايزاً بين البعد القانوني للاستقلال والبعد السياسي"، مؤكداً أنه على المستوى القانوني والفني، "تعد إريتريا دولة مستقلة ذات سيادة، تتمتع بعضوية الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، وتقيم علاقات دولية على المستوى العالمي، لكنها على المستوى السياسي الداخلي لم تتبنَ أي سياسات من شأنها تأكيد سيادة الشعب، باعتباره مصدر السلطات".
ويشير رباط في حديثه لـ اندبندنت عربية" إلى أن "لدى الشعب الإريتري تجارب سياسة متقدمة على غيره من الشعوب الأفريقية، حيث عرف حياة برلمانية ديمقراطية، على مدى تجربتين في خمسينيات القرن الماضي، وبدت إريتريا حينها دولةً حديثة تعتمد التعددية الحزبية، وتملك دستوراً ديمقراطياً، إلا أن ذلك تم وأده وتقويضه لأسباب خارجية وداخلية، عبر قرار الربط الفيدرالي مع المملكة الإثيوبية، قبل أن يقرر الإمبراطور هيلا سيلاسي إنهاء الاتحاد الفيدرالي وضم إريتريا قسرياً إلى إثيوبيا".
ويلفت رباط إلى أن "الضم القسري دفع الإريتريين إلى خيار الكفاح المسلح لاستعادة دولتهم المستقلة وخيارهم الديمقراطي لثلاثين عاماً"، موضحاً أن "تحقيق الاستقلال قانونياً، في بداية تسعينيات القرن الماضي، لم يضمن حتى الآن عودة التجربة الديمقراطية التي عاشها الإريتريون مبكرا في منتصف الخمسينيات من القرن ذاته".
تغيير ناعم لا يولد العنف
بدوره يتفق الكاتب الإريتري، صلاح أبو راي، مع رباط، فيؤكد أن بلاده "تمكنت من تحقيق أهم المهمات وهي تأكيد الاستقلال الوطني من العدو الأجنبي". ويضيف "ما تبقى يعد صراعاً طويلاً بين الطموح الجماعي في العيش في ظل دولة العدالة والديمقراطية وحكم القانون، وبين نظام استبدادي قمعي ينتهك حقوق الانسان وينتهك الحريات".
ويعتبر أبو راي أن "هذا الصراع يعد من المهمات الداخلية للإريتريين والتي ينبغي إنجازها أسوة بتاريخ الشعوب التي عاشت تجارب مشابهة".
ويقارن أبو راي بين الوضع الراهن الذي تعيشه إريتريا ودول أخرى خاضت صراعات مسلحة نتجت منها نظم ديكتاتورية، ليخلص إلى أن "الاستبداد لن يستمر طويلاً في إريتريا لعوامل عدة، منها القدر العالي من التعليم والثقافة الذي يتمتع به الشعب الإريتري وكذلك تأثير وسائل الاتصال الجماهيري الواسع التي يوفر القدر الكافي من المعرفة والإدراك بين ما يجب أن يكون عليه الوطن أسوةً بالأوطان الأخرى وبين الواقع المذري الذي يعيشونه. هذه المفاضلة هي الرهان الذي يوفر الإرادة الكاملة نحو التغيير السريع". وينوه أبو راي بأن "مسار التغيير إما أن يكون عنيفاً عبر تنظيمات مسلحة، وهذا يجر مخاطر عدة، حيث تتسع إمكانية إعادة إنتاج الديكتاتورية بشكل وأشخاص جدد". ويضيف أن ذلك قد يسهم في "العبث بالنسيج الوطني الإريتري الذي تشكل عبر مراحل طويلة من النضال المشترك. أما المسار الثاني للتغيير فهو الذي يعتمد على الوسائل السلمية وذلك عبر توسيع دائرة المجتمع المدني والاتحادات والنقابات المهنية والإسهام في الوعي بحقوق المواطنة والحقوق الدستورية".
ويوضح أن "الرهان قائم دوماً على هذا المجتمع المدني كالاتحادات والنقابات والروابط المهنية التي تشكل وعاءً لبلورة الوعي. وقد يترتب على ذلك كافة أشكال التعبير السلمي من تظاهرات واعتصامات وإضرابات لحمل النظام السياسي للاستجابة لمطالب الإريتريين في تحقيق دولة الدستور".
ويؤكد أبو راي أن "هذا الحراك قائم الآن في المهجر بشكل مكثف، لكنه غير كافٍ لإحداث التغيير ما لم يتم نقله إلى الداخل الإريتري"، موضحاً أن "أي حراك أو معارضة من الخارج تظل قليلة التأثير في مجرى التغيير بالداخل". فشل النظام أم فشل قيام الدولة؟
في سياق متصل، يرى الباحث الإريتري إدريس جميل، أن "نضال الإريتريين لعقود، تمثل في تحقيق هدفين رئيسَين هما تحرير كامل التراب الإريتري من الاحتلال الأجنبي وإقامة كيان إريتري مستقل، معترف به دولياً"، مؤكداً أن "ذلك تحقق في عام 1993 كنتاج لنضالات أجيال من الإريتريين سواء عبر النضال السياسي أو الكفاح المسلح الذي وضع فاصلة النهاية في نهاية الألفية الماضية، فيما تعثر الهدف الآخر المتمثل في إقامة دولة راشدة يسود فيها العدل وتحتكم للآليات الديمقراطية". ويفرّق الباحث "بين فشل النظام السياسي الحاكم، في تحقيق تطلعات الإريتريين، وبين فشل قيام الدولة"، مشيراً إلى أن "الوضع الراهن الإريتري تعبير عن فشل النظام السياسي، وليس عن قيام الدولة، وبالتالي فإن الفشل القائم يتعلق بعدم قدرة النظام في إحداث تحول ديمقراطي".
ويشير إدريس إلى أن ذلك "يحتاج إلى نضال سياسي يجبر النظام على الانتقال إلى النموذج الديمقراطي، الذي يضمن تداول السلطة بشكل سلمي".
مؤشرات التغيير
ويلفت إدريس إلى أن هناك مؤشرات عدة "تعد كرهانات لإحداث التغيير لمصلحة التحول الديمقراطي". ويدلل على ذلك بالقول إن "للمجتمع الإريتري تجارب طويلة، في مجابهة المخاطر الخارجية والداخلية. وثمة محاولات حدثت خلال العقود الثلاثة الماضية، من أجل إحداث التغيير، من بينها الحراك الداخلي الذي تبلور داخل أجهزة النظام في العقد الأول من الألفية الجديدة، سواء المتعلق بتقديم رؤى التغيير من قبل شخصيات نافذة داخل النظام، والتي عُرفت بمجموعة الـ 15، وضمت وزراء وحكام أقاليم وقياديين في الحزب الحاكم في عام 2001، أو عبر المحاولات التي حركها بعض قادة الجيش للإطاحة بالرئيس في عام 2012".
ويراهن المتحدث على "الوعي المجتمعي الذي يتبلور بين الفينة والأخرى، سواء داخل البلاد أو في المهجر، من خلال تيارات سياسية تخوض نضالاً سلمياً من أجل إحداث التغيير"، معتبراً أن "ذلك يعد بمثابة مخاض عسير، لإحداث التحول الديمقراطي. وطالما هناك نضال وتدافع قائم من أجل تحقيق إقامة دولة ديمقراطية، فإن بلوغ ذلك الهدف يعد مسألة وقت".
إشكاليات الثورة المسلحة
ويرى الباحث الإريتري أن "إحدى اشكاليات القوى الثورية العنفية تاريخياً، وعبر تجارب كثيرة في العالم، نلاحظ أنها في الأغلب تفشل في إحداث التحول الديمقراطي، لذلك فإن التجربة الإريترية تعد جزءاً من هذا التاريخ الطويل للحركات الثورية العنيفة". ويضيف "ثمة أسباب أخرى لفشل النظام السياسي في التحول نحو الديمقراطية، لعل أهمها عائد إلى البعد الاجتماعي المتجذر في الثقافة الحبشية، التي تميل في الغالب إلى الاتجاه الاستبدادي، المسيطر الذي لا يتيح المساحة للآراء المتعددة"، مؤكداً أن "هذه الثقافة قد يكون لها تأثيرها في ذهنية المجموعة الحاكمة في أسمرا". ويلفت إلى أسباب أخرى تتعلق بـ "البيئة الإقليمية في منطقة القرن الأفريقي التي تغيب عنها النظم الديمقراطية، مما يشجع أي قادم جديد كحاكم أو كدولة على تبنى نظام استبدادي أسوة بمحيطه الإقليمي مع ملاحظة غياب ديناميات خارجية ضاغطة لإحداث التحول الديمقراطي".
ويختم بالقول إن "ثمة عاملاً رابعاً يتمثل في البعد الشخصي للحاكم، بمعنى دراسة ذهنية ونزعة الشخص الحاكم، ومدى نزوعه نحو الاستبداد أم نحو التداول السلمي للسلطة"، ولهذا العامل تأثير مهم في قراءة تجربة النظام السياسي الإريتري، وفشله على مدى ثلاث عقود في إحداث الانتقال الديمقراطي، وتحقيق آمال شعبه في تحقيق دولة العدل والديمقراطية". المصدر >>>>>
Comments